266. بَابُ الْفَيْءِ وَالْأَنْفَالِ وَتَفْسِيرِ الْخُمُسِ وَحُدُودِهِ وَمَا يَجِبُ فِيهِ
أورد الكُلَيْنِيّ في هذا الباب 28 حديثاً. اعتبر المَجْلِسِيّ الحديث 1 مختَلَفاً فيه، والأحاديث 2 و6 و10 و14 و15 18 و20 و22 و23 و24 و25 و26 ضعيفةً، والحديث 4 مُرْسَلاً، والأحاديث 5 و12 و21 مَجْهُولةً، والأحاديث 3 و8 و9 و16 و17 و19 و27 و28 حسنةً، والحديث 11 حسناً أو مُوَثَّقاً، والحديثين 7 و13 صحيحين. أما الأستاذ البِهْبُودِيّ فقد صحَّح الأحاديث 3، 7، 8، 9، 11، 13، 17، 18، 21، و27 فقط.
أحاديث هذا الباب كما هو ظاهر من عنوانه تتعلق بفروع الدين لكن الكُلَيْنِيّ أوردها في هذا الجزء من الكافي المُخصص لأصول الدين! رواة أحاديث الباب الحالي هم ذات الأشخاص الذين تعرَّفنا عليهم ضمن رواة الأحاديث التي مرَّت معنا في الصفحات الماضية.
أورد الكُلَيْنِيّ في هذا الباب، قبل ذكر الأحاديث، مقدمةً وأبدى فيها رأيه بأنه لما صار آدم (ع) خليفة الله أعطى الله الدنيا كلها إلى خليفته! وهذا القول خطأ لأن آدم لم يكن خليفة الله، بل الله تعالى جعل آدم خليفةً للموجودات السابقة التي كانت على الأرض وكانت تُفسد فيها وتسفك الدماء. ولم تكن تلك المخلوقات المفسدة السفاكة للدماء مالكةً لكل ما في الدنيا.
وقد فهم الملائكة هذا الأمر أيضاً من قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة/30]، أي فهموا أن الله سيخلق خليفة يخلف من سبقه من المُفسدين السفاكين للدماء، وذلك لأن الله تعالى لم يقل: «إني جاعل في الأرض خليفتي»، ولم يقل: «خليفة الله». وقد أوضحنا سابقاً هذا الموضوع. (راجعوا الصفحات 554 فما بعد من هذا الكتاب).
من هذا يتبيَّن أن الكُلَيْنِيّ شأنه في ذلك شأن كُتَّاب زماننا الذين يكتبون ويُؤلفون دون تحقيق بل تقليداً من بعضهم لبعض وتحت تأثير الأفكار المشهورة، يتكلم عن آية قرآنية دون تَأَمُّلٍ في حقيقة معناها. وهو يقول: "فَكَانَتِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لآِدَمَ وَصَارَتْ بَعْدَهُ لِأَبْرَارِ وُلْدِهِ وَخُلَفَائِهِ [أي للأنبياء والأوصياء ومال الإمام]([1])، فَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ أَعْدَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ بِحَرْبٍ أَوْ غَلَبَةٍ سُمِّيَ فَيْئاً". (أي وكان خاصَّاً بالإمام)([2]).
هذا في حين أن «الفيء» هو مال بيت المال الذي يجب أن يُنفَقَ تحت إشراف الإمام الحاكم الذي بيده زمام أمور البلاد والذي انتخبه المؤمنون واختاروه، في المنافع والمصالح العامة للإسلام والمسلمين، لا الإمام الجالس في بيته وغير مبسوط اليد ولا يستطيع أن يُنفق أموال بيت المال في مصالح المسلمين العامة! (راجعوا ما ذكرناه حول هذا الموضوع في الباب 162 من الكتاب الحالي).
ß الحديث 1 - في الحديث الأول الذي هو من مرويات «أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ» سيء السمعة ذكر الراوي الآية 7 من سورة الحشر وافترى على أمير المؤمنين علي u بأنه قال: "نَحْنُ وَاللهِ الَّذِينَ عَنَى اللهُ بِذِي الْقُرْبَى الَّذِينَ قَرَنَهُمُ اللهُ بِنَفْسِهِ وَنَبِيِّهِ o. فَقَالَ: ﴿ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ﴾ مِنَّا خَاصَّةً!!".
يعلمُ كلُّ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بالقرآن وسيرة النبيّ o أن الآية المذكورة نزلت بشأن يهود بني النضير. وكانت الحادثة باتفاق الفريقين أنه لما استعد «بنو النضير» لحرب المسلمين قام المسلمون بمحاصرة حصنهم. وفي النتيجة قبل يهود بني النضير أن يخرجوا من المدينة وأن يحملوا ما أمكن لدوابِّهم أن تحمله من أثاث ومتاع ويتركوا للمسلمين بيوتهم وأراضيهم وما بقي لهم من أموال. بعد هذه الواقعة قام رسول الله o بتقسيم أموال بني النضير بين المهاجرين الذين كانوا فقراء ولم يكن لديهم بيوت ومتاع، ولم يُعطِ الأنصار الذي كان وضعهم المالي أفضل من المهاجرين شيئاً باستثناء «أبو دجانة» و «سهل بن حنيف» و «الحارث بن الصمة» الذين كانوا فقراء.
كان عَلِيٌّ (ع) يعرف أفضل من الآخرين هذا الموضوع ومن المحال أن يقول: إن جميع تلك الأموال كانت خاصة بي وبأولادي، وأن رسول الله o - نعوذ بالله - خالف الشرع ولم يُعطِ منها شيئاً لعَلِيٍّ والحسنين عليهم السلام، أو أعطى ثلاثة أشخاص من الأنصار من أموالنا مع أنه لم يكن لهم حقٌّ فيها!!!
يتبيَّن من هذا أن الكُلَيْنِيّ إضافةً إلى جهله بالقرآن كان قليل العلم أيضاً بسيرة النبيّ o وتاريخ الإسلام!
نصُّ الآية المذكورة هو التالي: ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر/7].
ß الحديث 2 - يدَّعي الحديث الثاني أن الإمام الباقر قال بشأن الآية: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِـلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ [الأنفال/41]: إنَّ «ذِي الْقُرْبَى» "هُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ o وَالْخُمُسُ لِـلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلَنَا!".
أقول: ولكنكم لو قرأتم بقية الآية للاحظتم أن الآية المذكورة والآيتين قبلها والآيات التي بعدها تتكلَّم كلُّها عن الحرب وجهاد المشركين ونزلت في غزوة بدر. حتى أنه جاء في متابعة الآية قوله تعالى: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال/41]، ثم قال تعالى في الآية التي بعدها: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ [الأنفال/42].
تُبيِّن الآية - كما يُلاحظ بوضوح تام- وضع المسلمين والمشركين في غزوة بدر. لما انتصر المسلمون في تلك الغزوة وغنموا الغنائم، قال تعالى في الآية المذكورة أعلاه: اعلموا أن ما وقع في أيديكم من غنائم الحرب خُمسُه لِـلَّهِ والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. أما الكُلَيْنِيّ فروى في هذا الحديث وفي الحديث الرابع أن المقصود من اليتامى والمساكين وابن السبيل نحن آل محمد!! أي المقصود هم اليتامى من آل محمد والمساكين من آل محمد وأبناء السبيل من آل محمد! ولم يفهم أو تجاهل أنه لو كان اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد هم المقصودون لكان ذكر كل واحد منهم أمراً زائداً لأنهم جميعاً يدخلون في مفهوم ذوي قربى النبيّ ولا حاجة لذكرهم مع وجود كلمة «ذِي الْقُرْبَى» في الآية. ولذلك فإن ذكرهم في الآية يدل على أن المقصود هو أيتام جميع المسلمين ومساكينهم، والآية ليست مقصورةً على آل محمد، أما طبقاً لرواية الكُلَيْنِيّ فإن الله قال لرسوله: أعطِ غنائم بدر إلى أيتام آل محمد!! هذا مع أن رسول الله o الذي كان حينها على قيد الحياة لم يكن له من آله يتامى ولا مساكين. ولذلك نرى أن النبيّ o لم يُعطِ آله أي أبناءه - الذين لم يكن لديهم أيتام- شيئاً من الغنائم، وخلافاً لحديث الكُلَيْنِيّ الفاقد للاعتبار، لم يُقسِّم المال بين أهل بيته بل أعطاه لأيتام المسلمين ومساكينهم وأبناء سبيلهم.
والنقطة الأخرى في الآية التي نبحث فيها، هي كلمة «غَنِمْتُمْ» التي اعترف حتى المَجْلِسِيّ أن مضمون الآية يدل على وجوب الخُمس في غنائم دار الحرب سواءً كانت من الأموال المنقولة أم غير المنقولة، وأن هذا هو المعنى المتبادر إلى الذهن من الغنيمة في هذه الآية، وتفسير المُفسِّرين أيضاً يُؤيِّد هذا القول لاسيما أن ما قبل الآية وما بعدها يتعلق بالحرب([3]).
إن كلمتي «غَنِمْتُمْ» و«مَغَانِمُ» -كما يقول أخونا الفاضل المرحوم «قلمداران»- جاءتا في كافة آيات القرآن في سياق آيات الجهاد ومحاربة الكفار. ومن جملة ذلك سورة الأنفال هذه، بدءاً من الآية 55 وحتى آخر السورة التي والتي تتعلق جميعها بموضوع الحرب والجهاد. في وسط هذه الآيات جاء قوله تعالى في الآية 69: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا﴾.
وجاءت كلمة «مَغَانِمُ» في الآية 94 من سورة النساء في سياق آيات الحرب حيث أن الآيات قبلها وبعدها تتعلق كلها بالحرب والجهاد [القتالي]. وفي سورة الفتح أيضاً نجد أن كلمة «مَغَانِمُ» التي وردت في الآية 15 جاءت في سياق الآيات المُتعلقة بالحرب والجهاد.
وجاء في كتاب «وسائل الشيعة» أيضاً عن الإمام الصادق u أنه قال: "لَيْسَ الخُمُسُ إِلَّا فِي الْغَنَائِمِ خَاصَّةً". وقال الشيخ الحر العاملي بعد ذكره هذا الحديث: "أقول: المُراد ليس الخُمس الواجب بظاهر القرآن إلا في الغنائم"([4]).
بالطبع يسعى أصحاب الدكاكين المذهبية (المُتكسِّبين بالدين) من خلال تشبُّثهم بالقاعدة الأصولية «المورد لا يُخصِّص الوارد» إلى القول بأن الآية لا تنحصر بغنائم الحرب! ولكن هذا القول خطأ بلا أي شُبهة وهو نموذج لـ «كلمة حق يُراد بها باطل»، لأننا لم نُخصّص الآية بغزوة بدر ولم نُخالف القاعدة الأصولية المذكورة بل نُؤمن أن الآية عامة تشمل بعمومها كل حرب شرعية خاضها المسلمون مع الكفار. ولكن يجب أن ننتبه إلى أن هذه القاعدة لا تصلح مستمسكاً لتعميم الآية إلى غير الحرب وإلى غير غنائم الحرب، وأن تسريتها وتعميمها إلى غير غنائم الحرب يحتاج إلى دليل، لأن الآية 41 من سورة الأنفال كما قلنا لا تشمل إلا غنائم القتال فقط لا غير. ولهذا السبب نرى أن رسول الله o وعَلِيَّاً لم يأخذا أبداً خُمس أرباح المكاسب من الناس. (فَتَأَمَّل)
النقطة الأخرى التي ينبغي أن ننتبه إليها أنه جاء في بعض أحاديث هذا الباب (الأحاديث 8 و 19 و 21 و28) أن الأئمة سُئلوا: عَنْ مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ، وَعَمَّا يُخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ..... ما هو الحق الشرعي فيها؟ فأجاب الإمام: عَلَيْهَا الْخُمُسُ. أي أن مقدار الزكاة الواجبة في تلك الأشياء هو: «خُمْسُها»، فكلمة «خُمس» هنا عدد كسريٌّ وليست إشارة إلى فرع مستقل من فروع الدين. وبعبارة أخرى: فإن الزكاة في بعض الأموال هي العُشر وفي بعضها الآخر «نصف العُشر» وفي بعضها «ربع العُشر» وفي بعض الأموال هي «الخُمس»([5]). راجعوا كتاب «جامع المنقول في سنن الرسول» (كتاب الزكاة، باب 13، باب زكاة الركاز والمعدن). ولكن الكُلَيْنِيّ ومُقلِّدوه - مع الأسف- يسعون إلى أن يوحوا بأن «الخُمس» فرع مستقل بذاته يُضافُ إلى سائر فروع الدين.
الأمر الآخر الذي جاء في بعض روايات الباب الحالي - كالأحاديث 3 و 7 و9- هو أن «الأنفال» يجب أن تكون بيد رسول الله o ثم تكون بعده ملكاً للإمام وتحت تصرفه.
و«الأنفال» عبارة عن الغابات والأحراش الجبلية والمعادن والأنهار والأراضي الموات، والأراضي التي صالح المسلمون الكفار على أن يعطوها للمسلمين، أو التي أعرض عنها أصحابها وتركوها [سواء كانوا كفاراً أو مسلمين]، والأشياء الثمينة الخاصة بالسلاطين والحكام. من البديهي أن المقصود هنا من «الإمام» - كما قلنا سابقاً - هو الحاكم المالك لزمام أمور المسلمين الذي اختاره المؤمنون برضاهم والذي يجب أن يكون مبسوط اليد كي يُنفق الأموال في مصالح الإسلام والمسلمين العامَّة، وليس المقصود الإمام الجالس في بيته الذي لا يملك ذلك الأمر. لكن الكُلَيْنِيّ ومُقلِّدوه يدَّعون أن المقصود من «الإمام» هو الإمام المنصوص عليه الذي يتحدَّث عنه الغلاة!
ß الحديث 5 - يقول الكُلَيْنِيّ في التعريف برواة الحديث الخامس: "عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَظُنُّهُ السَّيَّارِيَّ".
يعني أنه لم يكن يعلم على وجه الدقة من هو راوي الحديث! وإذا كان هو «السَّيَّارِيَّ» فهو من أضعف الضعفاء([6]).
في هذا الحديث نُسِبَ كذباً إلى الإمام الكاظم (ع) أنه قال: "لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ o فَدَكاً وَمَا وَالَاهَا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ o ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الإسراء/26]. فَلَمْ يَدْرِ رَسُولُ اللهِ o مَنْ هُمْ؟ فَرَاجَعَ فِي ذَلِكَ جَبْرَئِيلَ وَرَاجَعَ جَبْرَئِيلُ (ع) رَبَّهُ فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنِ ادْفَعْ فَدَكاً إِلَى فَاطِمَةَ (ع)؛ فَدَعَاهَا رَسُولُ اللهِ o فَقَالَ لَهَا: يَا فَاطِمَةُ إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَ إِلَيْكِ فَدَكاً. فَقَالَتْ: قَدْ قَبِلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مِنَ اللهِ وَمِنْكَ. فَلَمْ يَزَلْ وُكَلَاؤُهَا فِيهَا حَيَاةَ رَسُولِ اللهِ o فَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَ عَنْهَا وُكَلَاءَهَا، فَأَتَتْهُ فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: ائْتِينِي بِأَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ يَشْهَدُ لَكِ بِذَلِكِ، فَجَاءَتْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَأُمِّ أَيْمَنَ فَشَهِدَا لَهَا، فَكَتَبَ لَهَا بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ [أي أصدر أبو بكر مرسوماً يقضي بعدم التعرض إلى فدك الخاصَّة بفاطمة]، فَخَرَجَتْ وَالْكِتَابُ مَعَهَا، فَلَقِيَهَا عُمَرُ فَقَالَ: مَا هَذَا مَعَكِ يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ؟ قَالَتْ: كِتَابٌ كَتَبَهُ لِيَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، قَالَ: أَرِينِيهِ! فَأَبَتْ، فَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهَا وَنَظَرَ فِيهِ ثُمَّ تَفَلَ فِيهِ وَمَحَاهُ وَخَرَقَهُ!!".
حقاً إن هذا الحديث من إبداعات الكُلَيْنِيّ وروائعه! ومنه يُمكننا أن نُدرك مقدار عقله وفهمه وميزان علمه ومعرفته!
أولاً: يدَّعي الحديث أن النبيّ o لم يكن يدري من هم: ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾!! ونسأل: هل كان كلام الله - نعوذ بالله - غير بيِّنٍ ولا بليغ أم أن النبيّ لم يكن يفهم العربية جيداً حتى لم يُدرك من هم ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾؟
إضافةً إلى ذلك إن كان المقصود من ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾ ابنة المُخَاطَب أفلم تكن سائر بنات النبيّ أيضاً من ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾؟
ثم إن «ذا القربى» معطوف عليه إذ عُطفت عليه كلمات «المسكين» و «ابن السبيل» مما يدل على أن المراد هو المعنى العام لـ ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾ وليس المقصود فرداً خاصاً محدَّداً.
وبصرف النظر عن كل ذلك، لماذا لم تَقُلْ الآيةُ صراحةً «وآت بِنْتَك حَقَّهَا» أو «آتِ فاطمةَ حَقَّهَا»؟!
ثانياً: إن سورتَي الإسراء الروم مكيتان، ولو قبلنا قول الكُلَيْنِيّ في الباب 171 حول ولادة حضرة الزهراء، يكون عمرها في هذه المرحلة ثمانية سنوات وَمِنْ ثَمَّ فقد كانت صغيرة غير قادرة على الملكية الشخصية.
ثالثاً: في الفترة المكية لم تكن «فدك» قد فُتحت بعد حتى يقول الله لنبيِّه: ادْفَعْ فَدَكاً إِلَى فَاطِمَةَ (ع)!!
رابعاً: إن واضع الحديث نسي أن حضرة الزهراء كانت قد اصطحب معها عليَّاً إلى أبي بكر ليشهد لها، فلو أراد عُمَر كما يدَّعي الحديث أن ينتزع كتاب أبي بكر منها بالقوة ويُمزِّقه لمنعه عَلِيٌّ من ذلك قطعاً.
خامساً: كان بإمكان حضرة الزهراء (ع) أن تعود ثانيةً إلى أبي بكر وتأخذ منه نسخة أخرى من الكتاب كي تُفشل ما قصد إليه عمر.
سادساً: لم يكن عمر - كما ذُكر في «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (ص129) - يستطيع زمن خلافة أبي بكر أن ينقض أحكامه.
سابعاً: لو قبلنا - طبقاً لمفاد هذا الحديث - أن «فدك» كانت ملكاً لفاطمة وأنها تملَّكتها زَمَنَ رسول الله o، فالأحاديث التي تقول: إن حق فاطمة (ع) أُكل وأنهم لم يُعطوها ميراثها - ومن جملتها الحديث 3 من الباب 171 - كلها كذب، وكذلك الأحاديث التي تقول: إن حضرة الزهراء جاءت إلى المسجد وقالت: كانت فدك ملكاً لرسول الله o وأنا أرثها بصفتي ابنته، كلها كذب، لأن ما وهبه رسول الله o زمن حياته وصار ملكاً لفاطمة لا معنى للمُطالبة بوراثته.
ثامناً: يدَّعي الحديث أن حضرة الكاظم (ع) قال للخليفة العباسي: "حَدٌّ مِنْهَا [أي من فدك] جَبَلُ أُحُدٍ وَحَدٌّ مِنْهَا عَرِيشُ مِصْرَ وَحَدٌّ مِنْهَا سِيفُ الْبَحْرِ وَحَدٌّ مِنْهَا دُومَةُ الْجَنْدَلِ!!"
وقال المَجْلِسِيّ في «مرآة العقول» - نقلاً عن «القاموس» - "فدك قرية بخيبر". فإذا كان الأمر كذلك فإننا نسأل: هل يُعقل أن يقول حضرة الكاظم (ع) مثل ذلك الكلام المخالف للواقع؟!
تاسعاً: يفيد الحديث أن الخليفة العباسي لم يعترض على كلام حضرة الكاظم! أفلم يكن الخليفة العباسي يعلم حدود فدك حتى لزم الصمت أمام ذلك الادِّعاء المخالف للواقع؟
وراجعوا بشأن قضية فدك ما ذكرناه على نحو الاختصار في الكتاب الحالي (ص 175فما بعد).
عاشراً: ألم يكن الكُلَيْنِيّ يستخدم عقله عندما دوَّن هذا الحديث حتى يُدرك أن حدود «فدك» ليست أبداً على النحو الذي ذُكر فيه، وأن مثل ذلك الكلام لم يصدر عن الإمام قطعاً وأن هذا الحديث غير قابل للتدوين في كتاب من نوع «الكافي»؟!
في الأحاديث 10 و11 و12 و13 - خلافاً للقرآن الكريم الذي ذكر خُمس غنائم الحرب والقتال فقط - تمَّ الافتراء على الإمام بأنه قال في تفسير آية ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ...﴾: "هِيَ وَاللهِ الْإِفَادَةُ يَوْماً بِيَوْمٍ!"، أي أن الخُمس يُدفع من كل ما يكسبه الإنسان ويستفيده يوماً بيوم!
إن مثل هذه الأحاديث تُخالف القرآن وتُخالف سنة الرسول الأكرم o وتُخالف عمل حضرة أمير المؤمنين علي u الذي لم يأخذ هو ولا النبي J الخُمُسَ من كسب الناس وثمرة عملهم.
والآية المذكورة لا تتعلَّق بأي وجه من الوجوه بالكسب والعمل، والله تعالى لم يقل في الآية: «آتوا خُمسه»، في حين أنه لو كان المقصود كل ما يغنمه الإنسان في حياته بما في ذلك ما يناله من كسبه وعمله لقال: «آتوا»، ولكن لما كان المقصود هو الغنائم الحربية فقط، ولم يكن للغنائم صاحبٌ معيَّن، بل أمرها متروكٌ لتصرف إمام المسلمين ومالك زمام أمورهم، إذ هو المسؤول عن فصل الحصة العامة أو حصة بيت المال يعني «الخُمس» عن بقية الغنائم، ثم إعطاء المجاهدين حصَّتهم، قالت الآية: ﴿اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ...﴾. فمن هذا يتبيَّن أن تعميم الآية لتشمل كل ما يكسبه الإنسان يوماً بيوم وما يناله من عمله، ليس إلا من تلفيقات الرواة الجاهلين بالكتاب والسنة.
إن أكثر ما يُؤلم أصحاب الدكاكين المذهبية المُتكسِّبين بالدين، وهو الأمر الذي يرفضونه رفضاً تامَّاً ويتحايلون بأنواع المعاذير للتفصِّي منه وعدم قبوله هو ما جاء في الأحاديث 10 و16 و20 من هذا الباب وأمثالها من أن الإمام وهب للشيعة الخُمس وجعلهم في حِلٍّ من دفعه. مثلاً في الحديث العاشر يقول الإمام الصادق u: "إِنَّ أَبِي [أي حضرة الباقر (ع)] جَعَلَ شِيعَتَهُ فِي حِلٍّ لِيَزْكُوا". وفي الحديث 16 قال: "فَإِنَّهُ مُحَلَّلٌ لَهُمْ". أي حُلِّل للشيعة عدم دفع الخُمس. وفي الحديث 20 قال: "قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ لِشِيعَتِنَا".
وبناءً على ذلك فلا يجوز للفقهاء أن يأخذوا الخُمس من الناس، لكنهم يفعلون ذلك مع الأسف (فَتَأَمَّل جداً). وذُكرت في كتاب «وسائل الشيعة» أيضاً أحاديث عديدة حول تحليل الخُمس للشيعة وإعفائهم من دفعه وكلها تدل على أنه لا يجب عليهم دفع الخُمس([7]).
ß الحديث 15 - يقول «محمد بن سنان» الكذَّاب و «يونس بن يعقوب»: "عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: طَلَبْنَا الْإِذْنَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) [لنسأله عن خُمس أموالنا] وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا ادْخُلُوا اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فَدَخَلْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مَعِي ............ فَقَالَ [الإمام الصادق] لَهُ [أي للرجل الأول]: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ مِنْ ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِكَ مِنْ وَرَائِي فَهُوَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ".
ولكنه قال للأشخاص الذين دخلوا بعدهما رغم أن حالهم كان مشابهاً لحال الرجلين الأولين: "وَذَاكَ إِلَيْنَا؟؟ مَا ذَاكَ إِلَيْنَا، مَا لَنَا أَنْ نُحِلَّ وَلَا أَنْ نُحَرِّمَ!".
والسؤال الذي يطرح نفسه: لو لم يكن للإمام الحقُّ في أن يُحلِّل شيئاً أو يُحرِّمه فلماذا أَحَلّ للرجلين الأوَّلَيْن الخُمسَ؟ وإن كان يستطيع أن يُحلِّله فلماذا لم يفعل ذلك لبقية الأفراد بل غضب من طلبهم؟! هل يُمكن أن يُفتي الإمام في مسألة واحدة بفتويين متناقضتين؟!
لقد اضطرَّ المَجْلِسِيُّ طبق عادته إلى القول بأن الإمام عمل هنا بالتقية! لكن خطأ المَجْلِسِيّ واضح وذلك لأن هبة الخُمس وتحليله أكثر تناسباً مع التقية من عدم تحليله، لأن سائر المذاهب الإسلامية لا يعتبرون الخُمس فرعاً مستقلاً من فروع الشريعة. (فَتَأَمَّل)
ß الحديث 27 - يروي «علي بن إبراهيم» القائل بتحريف القرآن عن أبيه مجهول الحال: "قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي [الإمام الجواد] (ع) إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ وَكَانَ يَتَوَلَّى لَهُ الْوَقْفَ بِقُمَّ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي! اجْعَلْنِي مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فِي حِلٍّ فَإِنِّي أَنْفَقْتُهَا. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ. فَلَمَّا خَرَجَ صَالِحٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): أَحَدُهُمْ يَثِبُ عَلَى أَمْوَالِ حَقِّ آلِ مُحَمَّدٍ وَأَيْتَامِهِمْ وَمَسَاكِينِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَأَبْنَاءِ سَبِيلِهِمْ فَيَأْخُذُهُ ثُمَّ يَجِيءُ فَيَقُولُ اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، أَتَرَاهُ ظَنَّ أَنِّي أَقُولُ لَا أَفْعَلُ؟ وَاللهِ لَيَسْأَلَنَّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالًا حَثِيثاً!!".
فنسأل: لماذا أضلَّ الإمام السائل فقال له: أنت في حِلٍّ؟! ربما لو قال له الحقيقة لقام بتعويض ما أنفقه. أضف إلى ذلك أنه إذا لم يقل الإمام الحقيقة حتى لوكيله فلمن سيقول الحقيقة إذن؟!
والعجيب أن «الخُمس» لم يأتِ في القرآن إلا مرَّةً واحدةً فقط ومع ذلك يهتمُّ به علماؤنا كل هذا اهتمام البالغ الذي يفوق كثيراً جداً اهتمامهم بـ «الزكاة» التي ذُكرت في القرآن أكثر من مئة مرة!!([8]) هذا في حين أن في القرآن الكريم آيات تدل على أن الزكاة واجبة في كل شيء وفي كل كسب وتجارة وأنها لا تنحصر بالأشياء التسعة التي قالها الفقهاء. لقد قرن الله تعالى في آيات عديدة الزكاة بالصلاة. وكلما كانت أهمية الشيء عند الله أكثر زادت الآيات التي تتحدث عنه، وذلك كالزكاة التي قال تعالى عنها مراراً وتكراراً في كتابه: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة/83]، وقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ......... وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [المؤمنون/1 - 4]، وقال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة/5]، وقال: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور/37].
ومن البديهي أن البيع والتجارة لا يُطلقان على بيع وشراء تسعة أشياء فقط بل يطلقان على كل معاملة مالية. (فَتَأَمَّل)
وليت شعري! هل توجد في القرآن آية حول الخُمس - الذي يتحدثون عنه في زماننا - مثل هذه الآية الصريحة التي تتعلق بزكاة التجارة والبيع؟ أين نجد في القرآن ذكر وجوب زكاة الجمال بشكل صريح، أما زكاة التجارة والبيع فلا يوجبها الفقهاء رغم هذا الأمر الصريح بها؟! ماذا سيُجيب الذين لا يوجبون الزكاة في البيع والتجارة ربَّهم يوم القيامة؟
إذا عرفنا أن القرآن لم يحصر الزكاة في تسعة أشياء فعلينا أن نترك الأحاديث المُخالفة للقرآن التي وضعها الوضّاعون الكذّابون، خاصةً أن تلك الأحاديث تتعارض مع أحاديث عديدة أخرى موافقة للقرآن لم تحصر الزكاة في تسعة أشياء، كالحديث الذي رواه الشيخ الطوسي في «تهذيب الأحكام» عن الإمام الصادق u أنه سُئل: "هَلْ فِي الْأَرُزِّ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ أَرْضَ أَرُزٍّ فَيُقَالَ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ جُعِلَ فِيهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ فِيهِ وَعَامَّةُ خَرَاجِ الْعِرَاقِ مِنْه"([9]).
هذا الحديثُ يُبيِّن صراحةً أنه إن لم يأخذْ رسولُ الله o الزكاة من الْأَرُزِّ فالسبب في ذلك أن زراعة الْأَرُزِّ لم تكن شائعة في المدينة، وليس سبب ذلك انحصار الزكاة بتسعة أشياء فقط. وقد رُوي عن رسول الله o قوله: "فِيمَا سَقَتِ الْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ وَالغُيُوثُ أَوْ كَانَ بَعْلًا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي وَالنَّاضِحِ نِصْفُ الْعُشْر"([10]).
وقال أيضاً: "فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ سَيْحاً الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالْغَرْبِ نِصْفُ الْعُشْر"([11]).
ورُوي عن «محمد بن مسلم» أنه قال: "سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ [الإمام الصادق] (ع) عَنِ الذَّهَبِ كَمْ فِيهِ مِنَ الزَّكَاةِ؟ فَقَالَ: إِذَا بَلَغَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ"([12]).
فكما نلاحظ جعل الإمام ملاك زكاة الذهب قيمته ولم يطرح أصلاً قضية كونه مسكوكاً أو غير مسكوك. ويقول القرآن الكريم: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.... فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة5و11].
ويقول رَسُولُ الله o أيضاً: "جَاءَنِي جَبْرَئِيلُ فَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ الْإِسْلَامُ عَشَرَةُ أَسْهُمٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ فِيهَا أَوَّلُهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَهِيَ الْكَلِمَةُ وَالثَّانِيَةُ الصَّلَاةُ وَهِيَ الطُّهْرُ وَالثَّالِثَةُ الزَّكَاةُ وَهِيَ الْفِطْرَةُ......"([13]).
وقال أيضاً: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ أَلَا فَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طِيبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ......"([14]).
وكتب رسول الله o رسالةً إلى عُمَان قال فيها: "من محمد رسول الله إلى أهل عُمَان، سلام، أما بعد، فأقرُّوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأدُّوا الزكاةَ .............."([15]).
وقال أمير المؤمنين علي u: "حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ"([16]). (نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 146). وقال أيضاً: "لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ"([17]). (نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 136).
وفي الدعاء 44 من الصحيفة السجادية يسأل حضرة السجاد (ع) ربَّه التوفيق إلى: "أَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإِخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ...".
في هذا الموضوع أخبار كثيرة ويجب مراجعة كتاب «الزكاة» للمرحوم «قلمداران»، وكتاب «جامع المنقول في سنن الرسول» الباب الثالث من كتاب الزكاة أي «باب الزكاة في كل شيء».
فإذا كان الأمر كذلك فكيف يُمكننا أن نصرف النظر عن كل هذه الدلائل ونحصر الزكاة في تسعة أشياء فقط؟! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ! وفي الواقع لقد ضيَّق فقهاؤنا بقدر ما استطاعوا دائرة شمول «الزكاة» بحُجج واهية مختلفة، وفي مقابل ذلك وسَّعوا ما استطاعوا من شمول «الخُمس».
قبل أن نختم هذا الباب أرى من المفيد أن أنقل لكم - بتصرف يسير - رأيَ أحد علماء الشيعة ومجتهديهم الكبار المعروفين وهو آية الله محمد تقي جعفري التبريزي، كما جاء في كتاب «منابع فقه» [أي مصادر الفقه].
في مقال بعنوان «بحث حول عدم انحصار أداء الزكاة في المواد التسعة»، ابتدأ بطرح سؤال يقول: "هل يجب إخراج زكاة المواد التسعة المعروفة فقط أم أن إخراج الزكاة بهذه المواد التسعة كان أمراً مرتبطاً بحكم الدولة وقوانينها في ذلك الحين ويُمكن استناداً إلى التشريعات الفقهية المُستنبطة من المصادر الموثوقة تجاوز هذه المواد التسعة والقول بشمول الزكاة للمواد ذات المنفعة العامة في هذا العصر"؟
ثم كتب يقول في الكتاب المذكور (ص 78 فما بعد):
"هناك أحاديث عديدة أضافت مواد أخرى [غير المواد التسعة] لاسيما الحبوب على ما ذُكر وأمرت بإخراج الزكاة من هذه المواد ضمن شروط مُعيَّنة وأن تُصرف مقادير مُحددة منها في مصارف الزكاة.
بناءً على ذلك، لا تنحصر الزكاة بالمواد التسعة بل إن حكمها أعمُّ وأشمل من تلك المواد بكثير ومجالها أوسع. وهناك أدلة عديدة على عدم انحصار الزكاة بالمواد التسعة نذكرها فيما يلي:
الدليل الأول: لقد أمر الله في حوالي عشرين آية من القرآن المجيد إخراج المال بصفة الزكاة ببيانات مختلفة، ولم يتم تحديد الكمية أو الكيفية في أيٍّ من تلك الآيات، كما أنه في المواضع الثمانية تقريباً التي أُمر فيها بالصدقة - التي فُسِّرت بأن المقصود منها هو الزكاة - لم يُذكر أي تحديد لمقدار مُحَدَّدٍ أو خصوصية وشروطٍ مُعيَّنة. ومن الجهة الأخرى فإن مفهوم الإنفاق الذي ذُكر في آيات عديدة لا يتضمن أي مقدار وكيفية محدَّدة.
فالذي يُستفاد من هذه الآيات العامة هو أن أداء المال بعنوان الإنفاق والزكاة ليس مثل أداء ركعتي صلاة الفجر التي هي تعيُّنيّة وتعيينيَّة مولوية، بل الهدف منه اجتثاث الفقر والقضاء على الحرمان والحاجة، والمال الذي يُصرف في هذا السبيل يجعل بقية المال مشروعاً وطاهراً.
ورغم أن القاعدة في أصول الفقه تقول: «ما مِنْ عامٍّ إلا وقد خُصَّ» إلا أنه إذا لاحظنا أن الأحاديث التي تحصر مال الزكاة في المواد التسعة، تُعارضها أحاديث أخرى كثيرة، فإن الآيات التي تدل على عموم وجوب إخراج الزكاة تبقى قابلة للتمسُّك بها. وطبقاً لعلَّة تشريع الزكاة التي ذُكرت في الأحاديث الموثوقة (رفع الحاجة بل الحيلولة دون وقوعها) لا بُدَّ أن تُفرض الزكاة على نحو تتحقق به تلك العلة المذكورة.
إن الحكم الشرعي الذي نُصَّ على علَّته - أي قيل إن هذا الحكم إنما شُرع لتحقيق هذه الغاية - تتسع دائرته وتضيق طبقاً لتحقُّق الهدف والعلَّة من تشريعه أو عدم تحقُّقها. وبالنسبة إلى الزكاة، فلدينا أحاديث تجعل هذه الفريضة في عداد الأحكام منصوصة العلة، يعني أنه قد وردت أحاديث حول الزكاة بيَّنت علَّة وجوبها. والنقطة التي نحصل عليها من هذه المقدمة أنه رغم أن أداء الزكاة عمل عباديّ أو يُقصد منه العبادة إلا أن أصل حكم الزكاة حكم مولويّ (أي أمر واجب الطاعة) وليس حكماً مجهول العلَّة. أي ليست الزكاة حكماً ينطبق عليه ما يقوله الفقهاء: "لا بُدَّ من أدائه عبادة" ثم لا تُذكر له علَّة، بل لهذه الفريضة علَّة واضحة قابلة للفهم من قبل عامة الناس وحكمها من وجهة نظر الفقيه حكمٌ منصوص العلَّة. ونذكر هنا نماذج للأحاديث التي بيَّنت علَّة وجوب الزكاة:
أ) "عَنْ زُرَارَةَ وَ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِم عَنْ الإمام الصادق u فِي حَدِيثٍ قَالَ: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ فِي مَالِ الْأَغْنِيَاءِ مَا يَسَعُهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُمْ لَزَادَهُمْ. إِنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا مِنْ قِبَلِ فَرِيضَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ أُوتُوا مِنْ مَنْعِ مَنْ مَنَعَهُمْ حَقَّهُمْ لَا مِمَّا فَرَضَ اللهُ لَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَدَّوْا حُقُوقَهُمْ لَكَانُوا عَائِشِينَ بِخَيْر"([18]).
ب) عَنْ مُبَارَكٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: "إِنَّمَا وُضِعَتِ الزَّكَاةُ قُوتاً لِلْفُقَرَاءِ وَتَوْفِيراً لِأَمْوَالِهِمْ"([19]).
ج) عَنْ مُعَتِّبٍ مَوْلَى الصَّادِقِ (ع) قَالَ قَالَ الصَّادِقُ (ع): "إِنَّمَا وُضِعَتِ الزَّكَاةُ اخْتِبَاراً لِلْأَغْنِيَاءِ وَمَعُونَةً لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَدَّوْا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ مَا بَقِيَ مُسْلِمٌ فَقِيراً مُحْتَاجاً وَلَاسْتَغْنَى بِمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ. وَإِنَّ النَّاسَ مَا افْتَقَرُوا وَلَا احْتَاجُوا وَلَا جَاعُوا وَلَا عَرُوا إِلَّا بِذُنُوبِ الْأَغْنِيَاءِ......."([20]).
د) عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ جَمِيعاً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مَا يَكْفِيهِمْ وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَزَادَهُمْ وَإِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مِنْ مَنْعِ مَنْ مَنَعَهُم"([21]).
وقد يُقال: إن مضمون هذه الأحاديث يقول: إن مقداراً محدداً من الضرائب يكفي لإزالة الفقر، في حين أننا نريد اليوم أن نُغيِّر ونُبدِّل هذا المقدار المحدَّد الذي لم يعد كافياً اليوم لتحقيق ذلك الغرض.
لكن هذا التوهم ليس صحيحاً لأن العلَّة الصريحة التي نُشاهدها في هذه الأدلة هي إزالة الفقر والقضاء على الحاجة والحرمان في المجتمع، وهذا المقدار المحدَّد إنما وُضع لكفاية ذلك في ذلك العصر. وكما سنرى في المباحث التالية مع ازدياد عدد السكان وكثرة ارتباط الإنسان بالطبيعة زادت حاجات الإنسان على نحو لا يُمكن معه مقارنة حاجات اليوم بـحاجات الأمس. إذا كانت الأحاديث صريحة في أن إيجاب دفع الزكاة في الإسلام هو لأجل اجتثاث جذور الفقر وإزالة الحاجة، فيُمكننا أن نقول بشكل قاطع: إن المقدار المُقَرَّر في ذلك الزَّمَن حُدِّد آخذاً بعين الاعتبار مقدار الفقر والحاجة في ذلك الزَّمَن.
الدليل الثاني: نُشاهد في 13 حديثاً ذُكرت في كتاب «الزكاة» من كتاب «وسائل الشيعة» بعد بيان المواد التسعة التي تجب فيها الزكاة، عبارة «وعفا رسول الله o عما سوى ذلك»([22]). فهذه الأحاديث كلُّها إذاً تدلُّ على أن تحديد المواد التسعة في زمن النَّبِيّ الأَكْرَم o إنما كان على أساس ما تقتضيه المصلحة وما تراه حكومة الوقت، وأنه حُسِبَ طبقاً للظروف المكانية والزمانية. لا أن ذلك هو حكم الله الأبدي.
وقد جاء موضوع «العفو» هذا الذي أشرنا إليه، في كتاب «الخراج» (ص 77) تأليف [القاضي] أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم.
إن النتيجة المُهمَّة للغاية التي نستنبطها من هذين الموضوعين هو أن العلَّة التي ذُكرت في إيجاب الزكاة (تأمين حياة الفقراء والبؤساء، بل اجتثاث جذور الفقر من المجتمع) تُصرِّح أن الزكاة ليست مُجرَّد قانون مولويّ صرف، وليست مُجرَّد اختبار روحانيّ خالص لموقف العبد أمام أوامر الله، بل هو تنظيم وتأمين لأمور معيشة تلك الشريحة من أفراد المجتمع التي لا تستطيع العمل، أو التي مردود عملها لا يكفي لتدبير شؤون حياتها وكذلك المصارف الاجتماعية الأخرى مثل قوَّات حفظ النظام وغيرها التي يجب أن تُؤمَّنَ من هذه الضريبة.
في هذا العصر نرى أن المواد التسعة المذكورة والمقادير التي تُخرج منها باسم الزكاة لا تكفي لتأمين معيشة الفقراء والمساكين وتنظيم بقية الأمور الاجتماعية. إن علَّة هذا الحكم - التي تمّ التصريح فيها بأن الزكاة هي لتحقيق ذلك الأمر الذي ذكرناه - تقول: لا يُمكن أن نجلس مكتوفي الأيدي وننتظر حصول معجزة كي تتأمَّن أمور معيشة تلك الطبقة من المجتمع.
ولكي نُوضح بشكل كامل أن دفع المال يجب أن يكون بمقدار يُحقق اجتثاث جذور الفقر ويضمن أن لا يبقى أثر لمحتاج محروم وبائس مسكين في المجتمع، نذكر واقعة ذلك الخلاف والمشاجرة التي وقعت بين أبي ذرٍّ وعثمان. من الواضح أن أبا ذرّ كان من أكبر علماء الأمة وفقهائها وصالحيها وأهمهم شأناً، وقوله حُجَّة وسند([23]) من الناحية الإسلامية والفقهية في بيان مقاصد الدين. جاء في كتاب «الغدير» (ج 8، ص 351) ما يلي: "وذكر المسعودي أمر أبي ذر بلفظٍ هذا نصُّهُ: إنه حضر مجلس عثمان ذات يوم، فقال عثمان: أرأيتم من زكَّى ماله هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب [الأحبار]: لا يا أمير المؤمنين. فدفع أبو ذرّ في صدر كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهودي! ثم تلا: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة/177].".
الدليل الثالث: الدليل الواضح جداً على هذا الأمر الذي نحن في صدده هو العمل الذي قام به أمير المؤمنين علي u في فترة خلافته. يروي «محمد بن مسلم» و «زرارة» عن الإمام الباقر والإمام الصادق - عَلَيْهِمَا السَّلَام - أن "أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَضَعَ عَلَى الْخَيْلِ الْعِتَاقِ الرَّاعِيَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ فِي كُلِّ عَامٍ دِينَارَيْنِ وَجَعَلَ عَلَى الْبَرَاذِينِ دِينَاراً"([24]). وقد وردت في هذا الأمر عدة أحاديث.
يتضح بأدنى تأمل في الفقه الإسلامي وتشريعاته أنه لو كان المقدار المحدَّد في الزكاة ثابتاً وأمراً حتمياً وأبدياً وغير قابل للتغيير مثل عدد ركعات الصلاة، لكانت إضافة أمير المؤمنين عليu مادة أخرى إلى المواد الزكوية مخالفةٌ صريحةٌ لتشريعات الإسلام.
الدليل الرابع: اعتبر «يونس بن عبد الرحمن» -بناءً على ما رواه الكُلَيْنِيّ صاحب كتاب «الكافي» - انحصار المواد الزكوية في الأشياء التسعة أمراً خاصاً بصدر الإسلام وحمل المواد الأخرى التي أُضيفت في الأحاديث إلى تلك المواد المُقرَّرة، على أن ذلك مما اقتضته المراحل التالية لصدر الإسلام. يقول يونس: وذلك مثل الصلاة التي كانت في أول البعثة ركعتين ثم أضاف إليهما النبيّ o ركعتين أخريين.
الدليل الخامس: حديث أبي بصير الذي يقول: سألت الإمام الصادق u "هَلْ فِي الْأَرُزِّ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ أَرْضَ أَرُزٍّ فَيُقَالَ فِيهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ جُعِلَ فِيهِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ فِيهِ وَعَامَّةُ خَرَاجِ الْعِرَاقِ مِنْه؟".
سند هذا الحديث صحيح وموثوق تماماً لأن رواته: إبراهيم بن هاشم، وحماد، وحريز، وأبو بصير الحلبي. (وسائل الشيعة، كتاب الزكاة، ج 6، ص 41، الحديث 11)([25]).
إن النتيجة النهائية والعامة التي نخرج بها بعد دراسة هذا الموضوع هي أنه لو كانت زكاة المواد التسعة المعروفة لا تفي بإزالة الحاجة والعوز من المجتمع فإن الحاكم الذي يُمثِّل نائب إمام المسلمين يُمكنه أن يُعمِّم ضريبة الزكاة ليجعلها تشمل مواداً أخرى ويكون تحديد تلك المواد وشروطها متروكاً لرأيه وما يراه من مصلحة الأمة.". (انتهى كلام آية الله محمد تقي جعفري التبريزي).
***
إلى هنا انتهَتْ دراستُنا لأحاديث المُجَلَّد الأول من أصول الكافي الخاصة بأصول العقائد وتمحيصُنا لها. ولِـلَّهِ الحمد.
وينبغي أن نعلم أن أكثر أجزاء «الكافي» افتضاحاً هو هذا المُجَلَّد الأول بالإضافة إلى المُجَلَّد الثامن (أي روضة الكافي)([26]).
ومرَّةً ثانيةً نُذكِّر بأن الرواة المنحرفين والكذَّابين الذين رَوَوْا لنا أحاديث هذين المجلدين - وقد عرَّفنا بحال بعضهم في كتابنا الحالي - هم أنفسهم الذين رووا سائر أحاديث الكافي أيضاً، والواقع أن الأحاديث التي جميعُ رواتِها صحيحو العقيدة وعدولٌ، وخاصةً التي يتفق متنها مع القرآن والسنة والعقل ولا إشكال فيها، ليست كثيرة في المجلد الثاني من أصول الكافي وفي الأجزاء الخمسة من فروع الكافي (أي المجلدات من الثالث وحتى السابع)، ولو أردت أن أبيِّن الأحاديث غير الصحيحة التي جاءت في الفروع لاحتجت إلى مجلد ضخم، ولكنني غير قادر على فعل ذلك اليوم في ظروفي الحالية، إذْ أنني بغض النظر عن ضعف الشيخوخة والمرض، لا أسكن حالياً في منزلي بسبب عدم الأمن على حياتي والخوف من إيذاء مأموري الحكومة وملاحقتهم لي. ولكنني سأذكر هنا كنموذج فقط بعض الأحاديث الخرافية التي لا تتفق مع كتاب الله أو العقل من بقية مجلدات الكافي، كي يَتَبَـيَّنَ أن فروع الكافي أيضاً لا تخلو من الأحاديث الباطلة. أسأل الله تعالى أن يتقبَّل منا هذا العمل ويجعله في الباقيات الصالحات لنا:
1 - أحاديث باب «طينة المؤمن والكافر» في الصفحة 2 فما بعد من المجلّد الثاني من «أصول الكافي» تدل على الجبر وسلب حرية الإرادة والاختيار عن السعيد والشقي، لاسيما الحديث 1 من «باب آخر منه» (ص 6). كما أن القول بعالَم الذرّ وأن الله أخذ العهد والميثاق من ذرات النطف([27]) قول مخالف للعقل والقرآن ومخالف للتكليف والاختيار. وبالمناسبة لم يُصحِّح الأستاذ البِهْبُودِيّ أيضاً أيّاً من الأحاديث الخمسة للباب الأوّل من المجلّد الثاني من «أصول الكافي».
وليس لرواة الأبواب المذكورة أيضاً وضع جيّد، فبصرف النظر عن المجاهيل نجد بين رواة تلك الأحاديث أشخاصاً من أمثال «ربِعي بن عبد الله» و«صالح بن سهل» و«سهل بن زياد» و«محمد بن أرومة» و«علي بن الحَكَم» و«صالح بن عقبة» و«صالح بن أبي حمّاد» وقد عرّفنا بهم جميعاً في الكتاب الحالي([28]).
2 - من الروايات واضحة البطلان في المجلد الثاني من «أصول الكافي» تلك المجموعة من الأحاديث التي تقول إنه بمجرّد قراءة دعاء مختصر فإن جميع ذنوب الإنسان وآثامه تُغْفَر له! أحد نماذج هذه الأحاديث الحديث الأول من باب (الدعاء عند النوم والانتباه) من كتاب الدعاء في المجلّد الثاني من «أصول الكافي» الذي رواه «أحمد بن إسحاق»([29]). طبقاً لهذا الحديث: "مَنْ قَالَ حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: الْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي عَلَا فَقَهَرَ وَالْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي بَطَنَ فَخَبَرَ وَالْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي مَلَكَ فَقَدَرَ وَالْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُمِيتُ الْأَحْيَاءَ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، خَرَجَ مِنَ الذُّنُوبِ كَهَيْئَةِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"([30]).
إن هذه الأحاديث تتصوّر أن حساب القيامة هزلٌ ومِزاح.
3 - ونموذج آخر لهذا النمط من الأحاديث الحديث الذي يَنْسِبُ إلى الإمام الصادق u أنه قال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدَعْ أَنْ يَقْرَأَ فِي دُبُرِ الْفَرِيضَةِ بِقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ قَرَأَهَا جَمَعَ اللهُ لَهُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَغَفَرَ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَمَا وَلَدَا!!"([31]).
ومن المفيد أن ننقل هنا ما قاله الأستاذ الشيخ «هاشم معروف الحسني» حول هذا النمط من الأحاديث:
"وقد أوتي هؤلاء [القصاصون والوُعّاظ] مقدرةً وبراعةً في العرض، وخيالاً واسعاً في التصوير والإغراء. قلَّ أن تجد أسطورةً من أساطيرهم بدون سند يربطها بصحابيٍّ يسندها إلى النبي J، أو برجل من أتباع الأئِمَّة يسندها إلى الإمام عليه السلام، وأحياناً يختلقون أشخاصاً وأسماءً ويجعلون منها سنداً يربطُ حديثَهم بالنبيِّ أو غيره من الأئمَّة والأولياء، فإذا اعترضهم سائلٌ قالوا: إنا نحفظ هذا، فكلما استحسنّا أمرنا أجريناه حديثاً وألحقنا به هذا السند!!"([32]).
ثم تكلّم الشيخ معروف الحسني عن قاعدة «التسامح في أدلة السنن» ونتائجها الوخيمة التي أدت إلى التساهل وعدم بذل الدقة الكافية في قبول الأحاديث المتعلّقة بالأمور غير الواجبة، وقد نقلنا كلامه حول القاعدة المذكورة في مقدمة كتابنا الحالي (راجعوا الصفحات 94 حتى 97).
4 - أحد خرافات فروع الكافي الفاضحة الحديث التالي الذي لم يشمّ راويه رائحة التوحيد ومعرفة الله! يقول راويه "مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيِّ عَنْ مَنِيعِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْقَصْرِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (ع) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! أَتَيْتُكَ وَلَمْ أَزُرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع)؟؟ قَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ! لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ شِيعَتِنَا مَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ. أَلَا تَزُورُ مَنْ يَزُورُهُ اللهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَيَزُورُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَيَزُورُهُ الْمُؤْمِنُونَ؟؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا عَلِمْتُ ذَلِك"([33]).
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. هل يمكن لأي إنسان يؤمن بالله ويعرف عظمته أن يقول إن الله تعالى يزور أحد عباده؟! كيف رضي الكُلَيْنِيّ أن يذكر في كتابه مثل هذه الرواية.
5 - وفي حديث آخر اتُّهِم رسول الله J بأنّه قال لأمير المؤمنين u: "يَا عَلِيُّ مَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ زَارَكَ فِي حَيَاتِكَ أَوْ بَعْدَ مَوْتِكَ أَوْ زَارَ ابْنَيْكَ فِي حَيَاتِهِمَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ضَمِنْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ أُخَلِّصَهُ مِنْ أَهْوَالِهَا وَشَدَائِدِهَا حَتَّى أُصَيِّرَهُ مَعِي فِي دَرَجَتِي!!"([34]).
ونسأل: هل تعتبرون هذا الحديث صادقاً في حق عثمان الذي كان صهر النبي J وعديل علي u وبالطبع كان قد يزورهما مراراً في حياتهما؟!
6 - أحد رواة الكُلَيْنِيّ الذي رُوِيَت عنه روايات في (الفروع) و (الروضة)، فرد مجهول الحال يُدعى «أبو الربيع الشامي» اعتبره آية الله الخوئي في كتابه «معجم الرجال» مجهولاً، وقال بعض علماء الرجال عنه إن الحديث السادس من باب طلب الرئاسة يدل على القدح فيه (أصول الكافي، ج 2، ص 298). إن الأحاديث التي رواها حول الأكراد تدل على أنه كان على عداوة مع أولئك القوم، وقد نسب أكاذيبه ظلماً وزوراً إلى حضرة الإمام الصادق u! مدّعياً أنه قال: "وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ الْأَكْرَادِ أَحَداً فَإِنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ الْجِنِّ كُشِفَ عَنْهُمُ الْغِطَاء"([35]).
ولا يخفى أن بعض العلماء لفّق توجيهات باردة لتبرير هذا الحديث وقال إن المقصود من «الجنّ» فيه أقوام من سكان الجبال، في حين أن كلمة «أكراد» عامة وكثير من الأكراد لم يكونوا من سكان الجبال، كما أن كثيراً من سكان الجبال ليسوا أكراداً.
7 - قَبْل أن يروي الشيخ الصدوق أحاديث غريبة حول الحيوانات، مما ذكرنا نموذجين عنه في كتابنا الحالي (ص 335و 357)، ارتكب الكُلَيْنِيُّ هذه الحماقة الشنعاء وقدّم لأمة الإسلام الحديث التالي:
"مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (ع) قَالَ: الْفِيلُ مَسْخٌ؛ كَانَ مَلِكاً زَنَّاءً. وَالذِّئْبُ مَسْخٌ؛ كَانَ أَعْرَابِيّاً دَيُّوثاً. وَالْأَرْنَبُ مَسْخٌ؛ كَانَتِ امْرَأَةً تَخُونُ زَوْجَهَا وَلَا تَغْتَسِلُ مِنْ حَيْضِهَا. وَالْوَطْوَاطُ مَسْخٌ؛ كَانَ يَسْرِقُ تُمُورَ النَّاسِ. وَالْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ. وَالْجِرِّيثُ وَالضَّبُّ فِرْقَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُؤْمِنُوا حَيْثُ نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (ع) فَتَاهُوا فَوَقَعَتْ فِرْقَةٌ فِي الْبَحْرِ وَفِرْقَةٌ فِي الْبَرِّ. وَالْفَأْرَةُ فَهِيَ الْفُوَيْسِقَةُ. وَالْعَقْرَبُ كَانَ نَمَّاماً. وَالدُّبُّ وَالزُّنْبُورُ كَانَتْ لَحَّاماً يَسْرِقُ فِي الْمِيزَانِ"([36]).
ويجب أن نعلم أن هذه الخرافة وأمثالها لا علاقة لها بما نقرأه في الآية 65 من سورة البقرة والآية 60 من سورة المائدة، والآية 166 من سورة الأعراف، بل الآيات تعارض تلك الخرافة، لأن الآيات المذكورة لا تقول أبداً إن القردة والخنازير كانت في أصلها أشخاصاً من البشر ثم مُسِخَت، بل تقول - خلافاً لما جاء في تلك الأحاديث الخرافية - إن الله عاقب جماعة خاصة من الناس تعدُّوا حدودَ الله فمسخهم قردةً وخنازيرَ، وليست أبداً في صدد بيان منشأ الحيوانات وأصلها. (فتأمَّل)
إن الآيات القرآنية وصفت أولئك الممسوخين بأنهم «خاسئين» أي مطرودين، في حين أن صفة الخاسئ والمطرود والذليل لا تتناسب مع القردة والخنازير العادية، لأنها لم تُذنب حتى يُذلَّها الله لاسيما أن الآية 60 من سورة المائدة عطفت الممسوخين على «عبد الطاغوت» مما يدل على أنه ليس المراد الكلام عن القردة والخنازير العادية لاسيما أن الآية 66 من سورة البقرة قالت: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة /66] أي أن الله جعلهم قردةً وخنازير عقاباً لهم ومجازاةً لهم على أعمالهم. في حين أن القردة والخنازير العادية ليس لها أي تصور عن الإنسانية وليست منزعجة أو حزينة لكونها قردة أو خنازير. لهذا السبب وبناءً على ما نقله الطبري في تفسيره - الذي يُعدُّ من أقدم تفاسير القرآن - وما نقله أيضاً السيوطي في «الدر المنثور» قال مجاهد وجماعة من مُفسِّري السلف: ليس المراد من تلك الآيات أن الله حوَّلهم إلى قردة وخنازير حقيقية بل المراد أنهم أصبحوا أذلَّاء مُحْتَقَرِين. وقال العلامة الطباطبائي في تفسيره «الميزان»: إن الإنسان الممسوخ هو من حصل خلل في إنسانيته وليس معنى مسخه أنه أصبح كالحيوانات الحقيقية فاقداً للإنسانية بشكل كامل ونصُّ عبارته: "فالممسوخ من الإنسان إنسان ممسوخ لا أنه ممسوخ فاقد للإنسانية"([37]).
ورُوي في حديث معتبر عن «عبد الله بن مسعود» (رض): أن رجلاً قال: "يَا رَسُولَ اللهِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ هي مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ النبي :o «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلاً وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ"([38]).
وما أحسن ما قاله أخونا الفاضل الأستاذ «مصطفى الحسيني الطباطبائي» -أيَّده الله تعالى -: "إن القول بأن الممسوخين تحولوا إلى قردة وخنازير حقيقية يتعارض مع الآية التي جاءت بعدها (أي بعد الآية 66 من سورة البقرة) لأن الآية 66 قالت: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة /66]. في حين أنه عندما تُشاهد القردة أو الخنازير الحقيقية العادية في مكان ما فإن الناس لا يُمكنهم أن يُدركوا أنها كانت قبل ذلك بشراً وَمِنْ ثَمَّ فلن تكون تلك الحيوانات موعظة للمتقين. لهذا السبب إذا دققنا النظر في هذه الآيات وفي القرائن الموجودة فيها يُمكننا أن نُدرك أن الأفراد الممسوخين قد أُصيبوا بنوع من الصدمة أو السكتة في وجوههم فتحولت وجوههم إلى وجوه قبيحة كوجوه القردة والخنازير. وقد أصبح معروفاً لدى الأطباء اليوم أن هناك نوعاً من الفيروسات إذا ابتُلي به الإنسان انقلب شكل وجهه وظهرت الاعوجاجات والانحرافات فيه. وهذا العرض لا علاج له في الغالب وعادةً ما يُصبح تناول الطعام أو الشراب عسيراً جداً ومؤلماً لدى الشخص المُبتلى بهذه الحالة".
كما لاحظنا، لا علاقة لآيات القرآن أبداً بخرافات الكُلَيْنِيّ والصدوق. (وراجعوا كذلك النموذج رقم 9 في هذا الفصل).
8- اعلم أن جزء «روضة الكافي» يشتمل على 597 حديثاً لم يُصَحِّح الأستاذ البِهْبُودِيّ منها سوى 74 حديثاً فقط، في حين اعتبر المَجْلِسِيّ 61 منها فقط صحيحاً. ولو أضفنا إليها الأحاديث التي قبلها المَجْلِسِيّ على أنها صحيحة بناءً على رأيه الشخصي لأصبح عدد الأحاديث الصحيحة لديه 76 حديثاً. وينبغي أن نعلم أن من جملة أحاديث جُزء «روضة الكافي» التي اعتبرها المَجْلِسِيّ صحيحةً الحديث 55! (راجعوا الصفحة 407 من الكتاب الحالي)، والحديث 272 الذي يقول: "عَنِ الْحَجَّالِ قَالَ: قُلْتُ لِجَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ J: إِذَا أَتَاكُمْ شَرِيفُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: وَمَا الشَّرِيفُ؟ قَالَ قَدْ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (ع) عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: الشَّرِيفُ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ!! ....".
هل يمكن للإمام أن يقول مثل هذا الكلام؟!
واعتبر المَجْلِسِيُّ الحديث 525 أيضاً صحيحاً. والحديث المذكور - شأنه في ذلك شأن الحديث 202 الذي لم يُصَحِّحه المَجْلِسِيّ ولا البِهْبُودِيّ - يدَّعي أن الآية 108 من سورة النساء نزلت في أبي بكر وعمر وأبي عبيدة الجراح! ولكنكم لو رجعتم في تفسير هذه الآية إلى تفاسير مثل «مجمع البيان» و «الميزان» و «تفسير نمونه» أي «تفسير الأمثل»([39]) للاحظتم أن الآية المذكورة تتحدث عن الأشخاص الذين اتَّهموا يهودياً بريئاً تهمةً باطلةً ولا علاقة لها بالمهاجرين من أصحاب النبيّ o أصلاً.
ورغم أن مؤلِّفِي تلك التفاسير الثلاثة يهتمُّون اهتماماً شديداً بروايات الكُلَيْنِيّ لكن أيَّاً منهم لم يروِ في تفسيره لتلك الآية هذا الحديث الذي ذكره الكُلَيْنِيّ في «روضة الكافي».
9- الحديث الآخر المُشابه للحديث 305 (راجعوا ص 148من الكتاب الحالي) هو الحديث رقم 323 من «روضة الكافي» الذي ينسب إلى الإمام الصادق u قوله: "خَرَجَ رَسُولُاللهِ J مِنْ حُجْرَتِهِ وَمَرْوَانُ وَأَبُوهُ يَسْتَمِعَانِ إِلَى حَدِيثِهِ فَقَالَ لَهُ: الْوَزَغُ ابْنُ الْوَزَغِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): فَمِنْ يَوْمِئِذٍ يَرَوْنَ أَنَّ الْوَزَغَ يَسْمَعُ الْحَدِيث!!". (راجعوا النموذج 7 من هذا الفصل)
10- واتهم الحديث 268 أميرَ المؤمنين علي u أنه لما سُئِلَ "عَنِ السَّحَابِ أَيْنَ يَكُونُ؟ قَالَ (ع): "يَكُونُ عَلَى شَجَرٍ عَلَى كَثِيبٍ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ يَأْوِي إِلَيْهِ!!....".
لقد ذكرنا هذه النماذج وبعض النماذج الأخرى من روايات الشيخ الصدوق في هذا الكتاب وهي تكفي لمعرفة وضع كتاب «الكافي» وللاطِّلاع على ميزان فهم الكُلَيْنِيّ والصدوق ومبلغ علمهما ومقدار معرفتهما بالقرآن. (وراجعوا أيضاً مقدمة الكتاب الحاضر، الصفحة 54 فما بعد).
وقال بعض العلماء في سعيٍ منه للحفاظ على اعتبار الكُلَيْنِيّ وحيثيته: إنه لم يكن يعتبر أن جميعَ ما دوَّنه من أحاديث في كتابه صحيحٌ ومقبولٌ([40])، لأنه قال في نهاية مقدمة «الكافي»: "...... وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ مِنْ جَمِيْعِ ذَلِكَ [أي من معرفة الأحاديث وتشخيص الصحيح منها من السقيم] إِلَّا أَقَلَّهُ، وَلَا نَجِدُ شَيْئاً أَحْوَطَ وَلَا أَوْسَعَ مِنْ رَدِّ عِلْمِ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْعَالِـمِ [أي الإمام] - عليه السلام - وَقَبُولِ مَا وَسِعَ مِنَ الْأَمْرِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: بِأَيِّمَا أَخَذْتُمْ [أي في الأحاديث المتعارضة] مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكُمْ"([41]).
هذا في حين أن أقصى ما يدلُّ عليه هذا الكلام أن الكُلَيْنِيّ لم يُمَيِّز بين الصحيح وغير الصحيح بالنسبة إلى الأخبار المُتعارضة في كتابه. ولكن بأي دليل تدَّعون أنه لم يكن يقبل كثيراً من الأخبار غير المُتعارضة التي تُشكِّل القسم الأعظم من كتابه «الكافي»؟ ولو كان هناك بعض الأخبار التي لم يكن الكُلَيْنِيّ يعتبرها صحيحةً ولا مقبولةً فلماذا أوردها في كتاب موصوف بتلك الأوصاف التي أرادها صديقه؟ (راجعوا ما ذكرناه في مقدمة الباب 93 من الكتاب الحالي).
أيها القارئ المحترم! لاحظ أنه إذا كان هذا وضع «الكافي» الذي هو أشهر كتب حديثنا وأكثرها وثاقةً([42])، فما بالك إذن بحال سائر كتب الحديث التي تأتي في الرتبة بعد كتاب «الكافي»؟ مثلاً قال آية الله الخوئي في مقدمة الجزء الأول من موسوعته «معجم رجال الحديث» عن كتاب «تهذيب الأحكام» للشيخ الطوسي:
"وأكثر هذه الكتب اختلافاً كتاب «التهذيب» حتى أنه قال في «الحدائق [الناضرة]»: «قَلَّمَا يَـخْلُو حَدِيْثٌ فِيْهِ مِنْ ذَلِكَ [أي التحريف، والتصحيف، والزيادة، والنقصان] فِي مَتْنِهِ أَوْ سَنَدِهِ». وما ذكره - قُدِّسَ سِرُّهُ - وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو مِنْ نَوْعٍ مِنَ المُبَالَغَة، إلا أنَّه صَحِيحٌ في الجُمْلَة. والخللُ في رواياتٍ «التهذيب» كثير"([43]). انتهى.
أجل إن الخلل في روايات التهذيب كثير جداً.
أيها القارئ العزيز! اعلم أيضاً أن كثيراً من الفقهاء يعتبرون أن مُجرَّد رواية الكُلَيْنِيّ (أو الصدوق أو الطوسي) عن راوٍ، دليلٌ على ثقته! ويعتقدون أن مشايخ الثقات ثقات! هذا في حين أنكم لاحظتم بأنفسكم أنه قد ثبت لدينا بعد التحقيق خلاف ذلك. والآن يُمكنكم بعد قراءتكم لهذا الكتاب أن تحكموا بأنفسكم إلى أي حد تلك القاعدة قاعدة بعيدة عن الصحَّة وغير مقبولة ولا أساس لها، فهل يصحُّ أن نعهد بعقيدتنا وإيماننا إلى مجموعة من الكتب من أمثال «الكافي» ونظائره اعتماداً على مثل تلك القاعدة الواهية المتهافتة؟
أيها القارئ الكريم! إن كنت حقاً من مُحبي أهل بيت النبيّ o فاعلم أنك بقبولك لأحاديث أمثال تلك الكتاب تكون قد عاديت أولئك الرجال الكرام وعملت ضد رغبتهم وأملهم الذي لم يكن سوى إعلاء كلمة الله واتحاد المسلمين الحقيقي والألفة الصادقة بين قلوب المؤمنين. نسأل الله عزّ وجل أن يمن علينا جميعاً بحسن التوفيق حتى نعرف كتابه أكثر وبشكل أفضل ولا نُخْدَع بالعدوّ المكّار أو الصديق المُتعصب الأحمق. آمين يا رب العالمين.
وكما قلنا في مقدمة الكتاب ونُكرر الكلام مرة أخرى ونؤكد عليه هنا أنه لا بُدّ من الانتباه بشدة إلى أحاديث فروع الكافي والتدقيق بها وتمحيصها جيداً قبل الأخذ بها لأن رواتها هم أنفسهم رواة هذا الجزء الأول من أصول الكافي الذين تعرّفنا على كثير منهم في كتابنا الحالي ورأينا أنه لا يُمكن الاعتماد على أحاديثهم وأنه لا بُدّ من بذل الحيطة والحذر الكاملين في قبول مروياتهم.
([2]) قال الشيخ الطوسي في تفسيره «التبيان»: -خلافاً لما ذكره الكُلَيْنِيّ-: إن الفيء هو المال الذي يؤخذ من العدو دون حرب أو قتال.
([4]) وسائل الشيعة، كتاب الخُمس (أبواب ما يجب فيه الخُمس، الباب الثاني الحديثان الأول والخامس عشر)، ج 6، ص 338 و 342.
([5]) الأحاديث 2 و4 و5 و8 و9 و10 و11 من الباب الثاني وأحاديث الباب الثالث والرابع (أبواب ما يجب فيه الخُمس)، من المجلد 6 من وسائل الشيعة أيضاً تؤيد قولنا هذا.
([6]) لقد بيَّنا حاله في الصفحة 183- 184 من الكتاب الحالي. كما عرَّفنا بالراوي الأول لهذا الحديث، أعني «علي بن أسباط» في الصفحة 753 من الكتاب الحالي.
([8]) إن كان مقصود المؤلِّف كلمة «الزكاة» بعينها فكلامه غير دقيق لأنها لم تأت في القرآن سوى 28 مرَّة، أما إن كان المقصود كل ما جاء في القرآن من حضٍّ على الإنفاق مما رزقنا الله، وعلى إيتاء المال للفقراء والمحرومين و....، وإعطاء حقٍّ معلومٍ من المال للسائل والمحروم، وإقراض الله قرضاً حسناً، وإيتاء الزكاة والصدقات... الخ، فهذا يتجاوز المئة مرة بالتأكيد كما قال. (المُتَرْجِمُ)
([9]) أورد أخونا الفاضل المرحوم «قلمداران» أحاديث عدم انحصار الزكاة في الأشياء التسعة في الجزء الأول من كتابه القيم «حقايق عريان در اقتصاد قرآن» (الزكاة)، فصل «الزكاة في جميع الحبوب والغلّات في قول أئمة أهل البيت» (ص 128 فما بعد). فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ.
([14]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 1، ص 15. وألفت عنايتكم إلى نقطة هامة وهي أنه في الأحاديث التي عُدِّدت فيها أصول الإسلام وأركانه، أي فروعه المُهمّة، ذُكرت الصلاة والزكاة والجهاد والحج والولاية و.....، ولكن لم يُذكر الخُمس أصلاً، وهذا يؤكد ما قلناه من أن «الخُمس» ليس سوى نوعاً من الزكاة أي أن مقدار زكاة بعض الأشياء هو الخُمس، وليس الخُمس فرعاً مستقلاً من فروع الشريعة. (فَتَأَمَّل)
([15]) أبو القاسم الطبراني، المعجم الأوسط، ج 7، ص 60، حديث رقم (6849)، من حديث أبي شدَّاد (رجل من أهل الذِّمار)، وإسناده ضعيف. وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة. وانظر مجمع الزوائد للهيثمي، ج 1، ص 178، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وإسناده لم أر أحداً ذكرهم إلا أن الطبراني قال: تفرد به موسى بن إسماعيل". (المُتَرْجِمُ)
([16]) وقد رُوي هذا الكلام عينه عن الإمامين الكاظم والصادق عليهما السلام أيضاً. راجعوا وسائل الشيعة، ج 6، ص 4، الحديث 5 و ص 15 الحديث 21.
([22]) جاءت الأحاديث التي ذُكرت فيها تلك الجملة في «وسائل الشيعة» (كتاب الزكاة)، ج 6، من الصفحة 33 حتى 38، بالإضافة إلى حديث جاء في الصفحة 53 (الحديث 6).
([23]) لمزيد من التفصيل حول موقف أبي ذرّ وقوله في الموضوع يُراجع كتاب «الغدير» للعلامة الأميني، ج 8، ص 335 حتى 356.
([35]) فروع الكافي (كتاب النكاح)، ج 5، ص 352، الحديث 2، و «وسائل الشيعة»، ج 12، ص 307 - 308، الحديثان 1 و 2، و ج 14، باب 32، ص 56.
([36]) فروع الكافي، (بَابٌ جَامِعٌ فِي الدَّوَابِّ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ لَحْمُها)، ج 6، ص 249، الحديث 14، وجاء أيضاً في الحديثين 3 و6 من الباب 138 من أصول الكافي: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَسَخَ طَائِفَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَا أَخَذَ مِنْهُمْ بَحْراً فَهُوَ الْجِرِّيُّ وَالْمَارْمَاهِي وَالزِّمَّارُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ. وَمَا أَخَذَ مِنْهُمْ بَرّاً فَالْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ وَالْوَبْرُ [حيوان أصغر من القطَّة] وَالْوَرَكُ [حيوان من فصيلة التماسيح ذي رأس صغير وذيل طويل]!!".
([39]) «تفسير نمونه» دورة تفسير كاملة للقرآن الكريم بالفارسية يقع في عشرين جزءاً وهو من تأليف آية الله ناصر مكارم الشيرازي أحد مراجع الشيعة الإمامية المعاصرين في قم، وقد تُرجِمَ بتمامه إلى العربية تحت عنوان «الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل» في عشرين جزءاً أيضاً. (المُتَرْجِمُ)
([40]) لا يُمكنهم أن يستخدموا هذا العذر للدفاع عن الشيخ الصدوق لأنه صرَّح في مقدمة كتابه «من لا يحضره الفقيه» (ص 3) قائلاً: "...... بل قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحَّته وأعتقد فيه أنه حجَّة فيما بيني وبين ربي".
([41]) أصول الكافي، ج 1، ص 76 (طبعة طهران). (أو ج 1، ص 49 من طبعة بيروت، دار التعارف للمطبوعات، بتحقيق وتصحيح محمد جعفر شمس الدين، 1411هـ/1990م). (المُتَرْجِمُ)