262. تذكير بمسائل تتعلق بالخلافة

 اعلم أنه بعد رحيل النبيّ o لم تكن الإمامة ورئاسة المسلمين في الإسلام منحصرة بيد شخص مُعَيَّن، كما أنه لا يوجد في القرآن الكريم أيُّ أثر ولا ذِكْرٍ لانحصار الإمامة بأفرادٍ مُعَيَّنين. وخلافاً للنُّبُّوة، فإن الله تعالى أعطى الحق لكل فرد من المؤمنين أن يطلب من الله أن يجعله إماماً للمتقين من خلال التقوى والعلم وتربية النفس، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا............ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان/74].

ويتضح من كلمات عَلِيٍّ (ع) وأولاده الكرام أنهم لم يكونوا يعتبرون أنفسهم أئمَّةً منصوبين مِنْ قِبَلِ الله أو أن الله هو الذي نصَّ على إمامتهم، بل كانوا يعتبرون أنفسهم أقدر من الآخرين على التصدي لمقام الإمامة وأكثر أهليةً لذلك، وكما جاء في كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، لم يدَّعِ عَلِيٌّ (ع) لنفسه ولا لابنه حضرة الحسن المجتبى (ع) النصَّ من الله على إمامتهما، في حين أنه لو كان هناك نصٌّ شرعيٌّ بشأن إمامته أو بشأن إمامة أولاده، لما أظهر الإمام كراهته ونفوره من الخلافة - كما نرى في الخُطَب 91 و137 و196 و 229 من نهج البلاغة - ولما قال: "إِنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي ولَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي" (نهج البلاغة، الخطبة 54)، وأمثال هذه التصريحات في نهج البلاغة كثيرة.

وقد بلغت كراهية الإمام للخلافة وإظهاره النفور منها أنه قال: "هَذَا مَاءٌ آجِنٌ ولُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا" (نهج البلاغة، الخطبة 5). ورُوي في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد عن الإمام أنه قال: "إن الله عالم من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارهاً للولاية على أمَّة مُحَمَّدٍo حتى اجتمع رأيكم على ذلك"([1]).

بناءً على ذلك لو كان الله قد نصب عليَّاً في مقام الخلافة والإمامة لما صرَّح عَلِيٌّ قطعاً بمثل تلك التصريحات. إضافةً إلى ذلك وكما قلنا مراراً لم يدَّعِ عَلِيٌّ (ع) أنني وأولادي أئمَّةٌ منصوبون مِنْ قِبَلِ اللهِ وأن الله نصَّ على إمامتنا، بل ادَّعى هذا الادِّعاء مخترعو النصوص الذين ينطبق عليهم المثل: «أكثرُ مَلَكِيَّةً من المَلِك!» وقالوا: إن عَلِيّاً كان مُعيَّناً في منصب الإمامة مِنْ قِبَلِ اللهِ.

هذا في حين أن الإمامَ عرَّفَ بنفسه قائلاً: "إِنِّي وَاللهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ [معاوية وجنده] وَاحِداً وَهُمْ طِلاَعُ الأَرْضِ كُلِّهَا [أي مِنَ الْكَثْرةِ] مَا بَالَيْتُ وَلاَ اسْتَوْحَشْتُ" (نهج البلاغة، الرسالة 62).

وكما قلنا (ص 607-608) صرَّح الإمام عليٌّ (ع) "أَلا وإِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ رَجُلاً ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وآخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ" (نهج البلاغة، الخطبة 173).

فلو كان الخلفاء الذين سبقوه قد أخذوا زمام الخلافة بغير وجه حق وعلى نحو مخالف لأمر الله وشرعه وكانوا مُنكرين لخلافته الشرعية التي أمر الله بها، لنهض حيدرة الكرار (ع) قطعاً إلى مُعارضتهم أو على الأقل لما بايعهم ولا وافقهم.

فإن قيل: لم تكن لدى الإمام إمكانية مُعارضتهم والقدرة على مخالفتهم. قلنا: كان الإمام يستطيع على الأقل أن لا يُبايعهم وأن لا يُخْلِصَ لهم النُّصح وأن لا يُسمِّي أولاده بأسمائهم ولا يزورهم ويختلط بهم ويتصل بهم بصلة المُصاهرة([2])، ولكننا نرى أنه على العكس من ذلك، لم يقتصر فعله على مبايعتهم والنصح لهم وعدم مقاطعتهم فحسب بل قال: "وإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِـلَّهِ رِضًا" (نهج البلاغة، الرسالة 6)، ومن الواضح أنه لو كان الله ورسوله قد نصبا خليفةً وعيَّنا إماماً لَمَا كان هناك مجالٌ ولا موردٌ لموضوع الشورى للمهاجرين والأنصار، ولكانت تلك الشورى أمراً زائداً ليس له محل، وَلَمَا قال عَلِيٌّ مثل ذلك الكلام قطعاً، إضافةً إلى ذلك فإن عَلِيّاً اعتبر الذين كان لهم دورٌ ومشاركةٌ في اختيار الخلفاء الذين سبقوه ومبايعتهم، مؤمنين وقال في حقهم: ".......... فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ" (فتأمَّل).

علاوةً على ذلك وكما لاحظنا في كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (حاشية الصفحة 27 و28) أخذ النَّبِيُّ الأَكْرَم o الميثاق والعهد من عَلِيٍّ (ع) على أن لا يُخالف من يختاره المهاجرون والأنصار. وهذا القول يتفق مع الأحاديث التي تقول: "نَهَى رَسُولُ اللهِ o أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلُ قَوْماً إِلَّا بِإِذْنِهِمْ"([3]). في حين لو كان عَلِيٌّ (ع) منصوباً مِنْ قِبَلِ الله لما قال النبيُّ J قطعاً مثل ذلك الكلام، ولما أخذ من عليٍّ (ع) ذلك العهد والميثاق.

إضافةً إلى ذلك، فقد جاء في تفسير «مجمع البيان» نقلاً عن الزجاج والعيَّاشي، وجاء أيضاً في تفسير القُمِّي وتفسير الصافي أن النَّبِيّ الأَكْرَم o أخبر زوجته عن خلافة أبي بكر وعمر. فمثلاً نقرأ في تفسير الصافي ذيل تفسير الآية 3 من سورة التحريم: "فقال: إن أبا بكر يلي الخلافة بعدي ثم بعده أبوك. فقالت: من أنبأك هذا؟ قال: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير. فأخبرت حفصةُ به عائشةَ من يومها".

يُلاحَظُ أن النبيَّ o أخبر زوجته هذا الخبر كي يُفرحها ولم يُخبرها به بوصفه خبراً حزيناً مؤلماً! إذْ من الواضح أنه لا معنى لتبشير النبيّ زوجَتَه ببشارة مفادها: إن أباك سيخون أمر الله ورسوله ويغتصب الخلافة ويكون سبباً في ضلال الناس!! و لو كان الأمر كذلك لوجب أن ينهى النبيُّ فيما تبقى له من أيام حياته بكل قوة وبصراحة تامَّة الناسَ عن قبول خلافة شخص غير عَلِيٍّ المُنصَّب مِنْ قِبَلِ الله، وأن يُرسل مُمثلين عنه إلى المناطق المُختلفة كي لا يبقى سائر المسلمين جاهلين بهذا الموضوع وأن يأخذ في المسجد وأمام الناس العهد والميثاق من أبي بكر وعمر أن لا يسعوا إلى أخذ الخلافة. (فتأمَّل جداً)

أما سبب عدم رغبة النبيّ بإعلان ذلك الخبر الذي أسرَّ به لحفصة فهو أنه J لم يُرد أن يُصيب موضوع الشورى والتشاور بين المسلمين والاهتمام برأي كل فرد من أفراد أهل الحل والعقد، أيُّ خدش أو ضرر. لأن النبيَّ J كان يريد أن يعمل المسلمون بآية: ﴿أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى/38] فيهتموا بمسألة الشورى المُهمَّة ويُطبِّقوها فيما بينهم وأن تُصبح هذه المسألة سُنَّةً ومنهجاً في اختيار رئيس المسلمين ومالك زمام أمورهم. أما لو انتشر ذلك الخبر لما تشاور المسلمون فيما بينهم بحُجّة أن الله أخبر نبيَّه o عن تولي أبي بكر الخلافة وبهذه الحُجَّة لم يعملوا بجدية واهتمام كافيين بمسألة الشورى والتشاور، في حين أنه بالنسبة إلى رسول الله o كانت تقوية مبدأ الشورى وتحكيمه بين المسلمين -لاسيَّما في موضوع اختيار الحاكم والرئيس- مُهمَّةً جداً أكثر من أهمية الشخص الذي سيُصبح خليفةً. (فتأمَّل)

لهذا السبب نرى أن عَلِيّاً (ع)، الذي كان أفقه المسلمين وكان يعرف أكثر من الجميع رغبة النَّبِيّ الأَكْرَم o ومشربه، كان مُصرَّاً قبل الآخرين على الرعاية التامة والكاملة لمبدأ الشورى والاهتمام بآراء الآخرين، ولذلك سعى بِجِدٍّ، قبل أن يستلم زمام الخلافة، إلى إعطاء الناس الفرصة الكافية والوقت اللازم للتفكير والتشاور كي لا يتسرَّعوا في اختيار الخليفة. ولهذا السبب لما أراد الناس أن يُبايعوه بعد مقتل عثمان، قال لهم، بدلاً من أن يُشير إلى نصٍّ إلهيٍّ على خلافته: "... فإنّ بَيْعَتِي لا تَكُونُ خَفِيّاً، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين"([4]).

وقال أيضاً قبل أن يُبايَع: "فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون"([5]). وبدلاً من أن يُشير إلى أن الإمامةَ مقامٌ إلهيٌّ يتم الحصول عليه بتنصيب الله تعالى لشخصٍ في هذا المقام، قال، قبل البيعة: "إنما الخيار للناس قبل أن يُبَايِعُوا"([6]). وقال أيضاً: "أيها الناس -عن ملأٍ وإِذْنٍ -، إن هذا أمْرُكُم، ليس لأحد فيه حقٌّ إلا من أمَّرتم([7])"([8]). (فتأمَّل)

والعجيب أن المُتكسِّبين بالمذهب والمُدَّعين لحب عَلِيٍّ (ع) يقولون: إن الإمام صرف النظر عن خلافته الإلهية حفظاً لمصالح الإسلام والمسلمين ومنعاً لوقوع الاختلاف والتفرُّق بينهم، ولكنهم أنفسهم بدلاً من أن يتبعوا الإمام في ذلك ويصرفوا النظر عن ادِّعاء الخلافة الإلهية له ويمتنعوا عن إثارة الفرقة، تجدهم يسعون دائماً وراء الأحاديث المثيرة للخلافة والمُفرِّقة بين المسلمين ويتبعون القاعدة التي تُعجب الشيطان والتي تقول: «خذ ما خالف العامة!!» ويسعون إلى تصوير الأشخاص الذين أثنى عليهم عَلِيٌّ وتعاون معهم كأشخاص ضالين ومُنافقين.

إن شيعة عَلِيٍّ الحقيقيين ومُحبيه الصادقين هم نحن الذين نسعى، كما فعل مُقتدانا وأُسوتنا، إلى اجتناب الفُرْقَة وأن لا ننسب الأحاديث الخرافية إليه وإلى أولاده الكرام، وأن لا نغلو في حقهم ولا ننسب إليهم الأمور التي لم يدَّعوها لأنفسهم بزور الأحاديث الضعيفة. ولِـلَّهِ الحَمْد، إنَّهُ وليُّ التوفيق



([1])   ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 36. (المُتَرْجِمُ)

([2])   صرَّح الشيخ الطوسي في كتابه «الأمالي» (المجلس الرابع) أن أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر كانت ممرضة حضرة الزهراء (ع) في أيام احتضارها. وهذا إن دلَّ على شيء فيدل على أن أسرة عَلِيٍّ كانت على ارتباط وثيق بأسرة أبي بكر.

([3])   الشيخ الصدوق، «من لا يحضره الفقيه»، ج 4، ص 15. (المُتَرْجِمُ)

([4])   انظر تاريخ الطبري، طبعة دار التراث، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 4، ص 427، أو طبعة ليدن، ج 3، ص 450، وتاريخ ابن أعثم الكوفي، ص 161. ولو أتى المؤلِّف بالنصّ الكامل للرواية لكان أوضح في إثبات الفكرة، لذا سأذكرها هنا كما جاءت في تاريخ الطبري: "عن محمّد الحنفيّة، قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: إنّ هذا الرّجل قد قُتِلَ، ولا بدّ للناس من إمامٍ، ولا نجد اليوم أحداً أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقةً، ولا أقربَ من رسول الله صلى‌الله عليه وسلّم. فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خيرٌ من أن أكون أميراً؛ فقالوا: لا، واللهِ ما نحن بفاعلين حتى نبايعك؛ قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون حفيّاً، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين." (المُتَرْجِمُ)

([5])   انظر الطبري، تاريخ الأمم والملوك، طبع ليدن، ج 3، ص 455، ونص روايته: "عن الشعبيّ، قال: لما قتل عثمان أتى الناس عليّاً وهو في سوق المدينة، وقالوا له: ابسط يدك نُبَايِعْكَ، قال: لا تعجلوا فإنّ عمر كان رجلاً مباركاً، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون". (المُتَرْجِمُ)

([6])   انظر المجلسي، بحار الأنوار، ج 32 ، ص 33، والشيخ المفيد، الإرشاد، ص 115، وكتاب مستدرك نهج البلاغة، ص 88 . (المُتَرْجِمُ)

([7])   تاريخ الطبري، ج 4، ص 435، (أو ج 3، ص 456 من طبعة ليدن)، وابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 4، ص 127، والمجلسي، بحار الأنوار، ج 32 ، ص 7 . (المُتَرْجِمُ)

([8])   نقلاً عن «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (حاشية الصفحة 29).