100. بيان حال «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» وذكر نماذج لرواياته التي تكشف ضعفه وعدم وثاقته

لو تأملنا في أحاديث «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» التي رُوِيت في كتاب «بصائر الدرجات»، أو في الحديث الخامس عشر من الباب 66 من الكافي، وهو من مروياته أيضاً، تبين لنا بوضوح أنه كان من الغلاة، وأن أكثر أحاديثه خرافية، وأنه كان يسعى إلى صناعة حُجَج لِـلَّهِ.

1- أحد نماذج مروياته الحديث الذي ينسبه إلى باقر العلوم (ع) ويدَّعي فيه: 

«عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام/75]؟ فَقَالَ: كُشِطَ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ حَتَّى رَآهَا وَمَا فِيهَا وَحَتَّى رَأَى الْعَرْشَ وَمَنْ عَلَيْهِ، وَفُعِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللهِ J". وَرَوَى أَبُو بَصِيرٍ وَمَنْصُورٌ: وَلَا أَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا وَقَدْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ"([1]).

كما أن الحديث 10 من كتاب فضل القرآن في أصول الكافي، ج 2، ص 622 من مروياته أيضاً.

تلاحظون أن راوي الحديث كان جاهلاً بالقرآن لأنه رغم أنه لم يُشَر في سورة الأنعام إلى العرش الإلهي إلا أن الراوي أضاف إلى مُفاد الآية رؤية العرش. إضافةً إلى أنه اعتبر الله تعالى قابلاً للرؤية رغم أن الله تعالى قال لا تدركه الأبصار، وادعى أن إبراهيم والنبي والإمام رأوا الذين كانوا فوق العرش؟!

ونحن نقول إن هذا الحديث ليس سوى تهمة لحضرة باقر العلوم (ع)، لأنه:

أولاً: لا دليل لدينا على أن كل آية أظهرها الله لنبيٍّ من أنبيائه، أو كل معجزة أعطاها لأحد من رسله لا بد أن تُعطى عينُها إلى سائر الأنبياء، فما بالك أن تُعطَى عينُها إلى الإمام الذي لا يتمتَّع بمقام النبوة. وكما قلنا سابقاً لا دليل لدينا على أنه لو تكلم عيسى (ع) في المهد أو أحيى الميِّتَ بدعائه، أو شفى الأبرص، فلا بد أن يكون نوح وإبراهيم وموسى..... قد فعلوا مثل ذلك أيضاً، أو أنه لو تحولت عصا حضرة كليم الله (ع) إلى ثعبان، فإن عصا حضرة يونس أو هود أو يوسف كانت تتحول إلى ثعابين أيضاً، أو أنه إذا شاهد الرسول الأكرم J جبريل (ع) (النجم/6-14) وعُرِج به إلى السموات، فإن موسى وصالح وشعيب شاهدوا جبريل أيضاً، وعُرِج بهم، وهكذا.....

ثانياً: لم يُشَر في سورة الأنعام - كما قلنا آنفاً - إلى العرش الإلهي، وإلى من هو مستقر على العرش، لكن الراوي أضاف إلى مُفاد الآية، رؤية العرش وبقية القضايا. هذا رغم أنه من الواضح أن الله غير قابل للرؤية، وأن معنى «استوى على العرش» - في حق الله الذي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى/11] -  لا يمكن أن يكون الجلوس العادي المعروف، بل كما قال معظم المفسرين: معناه استيلاء الحق تعالى وسيطرته على الأمور وتدبيره القاهر للعالم([2]).

2- 131من النماذج الأخرى لروايات «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» الحديث 15 من الباب 66 من الكافي([3]) الذي قلَّل فيه من أهمّيّة القرآن في أمر هداية الناس كي يتمكَّن من صناعة حُجَجٍ لِـلَّهِ لأجل الناس!! وفيما يلي بعض جُمَلِ حديثه:

"عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع): ..... فَقُلْتُ لِلنَّاسِ أَلَيْسَ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ J كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ مِنَ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ؟ قَالُوا: بَلَى. قُلْتُ: فَحِينَ مَضَى J مَنْ كَانَ الْحُجَّةَ؟ قَالُوا: الْقُرْآنُ. فَنَظَرْتُ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِهِ الْمُرْجِئُ وَالْقَدَرِيُّ وَالزِّنْدِيقُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَ الرِّجَالَ بِخُصُومَتِهِ فَعَرَفْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا بِقَيِّمٍ فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ كَانَ حَقّاً. فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ قَيِّمُ الْقُرْآنِ؟ قَالُوا: ابْنُ مَسْعُودٍ، قَدْ كَانَ يَعْلَمُ، وَعُمَرُ يَعْلَمُ وَحُذَيْفَةُ يَعْلَمُ. قُلْتُ: كُلَّهُ؟؟ قَالُوا: لَا. فَلَمْ أَجِدْ أَحَداً يُقَالُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَّا عَلِيّاً صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الشَّيْ‏ءُ بَيْنَ الْقَوْمِ فَقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي وَقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي وَقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي وَقَالَ هَذَا أَنَا أَدْرِي فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيّاً u كَانَ قَيِّمَ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةً وَكَانَ الْحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ J وَأَنَّ مَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ. فَقَالَ [أي الإمام الصادق u] رَحِمَكَ اللهُ".

وفي الجزء الثاني من الحديث يتابع «مَنْصُورُ بْنُ حَازِمٍ» قائلاً:

"فَقُلْتُ إِنَّ عَلِيّاً u لَمْ يَذْهَبْ حَتَّى تَرَكَ حُجَّةً مِنْ بَعْدِهِ كَمَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ J، وَأَنَّ الْحُجَّةَ بَعْدَ عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ حَتَّى تَرَكَ حُجَّةً مِنْ بَعْدِهِ كَمَا تَرَكَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ وَأَنَّ الْحُجَّةَ بَعْدَ الْحَسَنِ الْحُسَيْنُ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةً........... الخ، فَقَالَ [حضرة الإمام الصادق u مصدِّقاً لكلامه:]  رَحِمَكَ اللهُ..."([4]).

وأقول: نحن لا نصدِّق أن الإمام الصادق u وافق على كلام «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» وأيَّده، وذلك للدلائل التالية:

أولاً: 132لأن قولَهُ مخالفٌ للقرآن الكريم الذي بيَّن لنا أنه ليس بعد الأنبياء حُجَّة (النساء/165) والذي اعتبر التوراة والقرآن إماماً للناس (هود/17، والأحقاف/12)، فإذا كانت التوراة إماماً فإن القرآن الكريم أولى منها بمراتب كثيرة بصفة الإمام.

ثانياً: كلام «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» مخالفٌ لكلام الإمام الصادق u نفسه [الذي رواه عن جدِّه رسول الله J أنه] قال:

"فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ..... وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ وَهُوَ كِتَابٌ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ وَتَحْصِيل..."([5]).

ومخالفٌ لكلام الوالد الكريم للإمام الصادق أي الإمام الباقر (ع) الذي قال:

".... تعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ......... فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: كَيْفَ رَأَيْتَ عِبَادِي؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! مِنْهُمْ مَنْ صَانَنِي وَحَافَظَ عَلَيَّ وَلَمْ يُضَيِّعْ شَيْئاً وَمِنْهُمْ مَنْ ضَيَّعَنِي وَاسْتَخَفَّ بِحَقِّي وَكَذَّبَ بِي وَأَنَا حُجَّتُكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ......"([6]).

ثالثاً: كلام «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» مخالفٌ أيضاً للكثير من كلمات جد الإمام الصادق حضرة عليٍّ u الذي قال:

"تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) حُجَّتُهُ". (نهج البلاغة، الخطبة 91).

وقال: "فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ". (نهج البلاغة، الخطبة 91).

 وقال يصف القرآن: "ونُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ ومَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وعِزّاً لِمَنْ تَوَلّاهُ ... وهُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ [وعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ وبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وفَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ]". (نهج البلاغة، الخطبة 198).

 وقال: "ولَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ وأَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الأعْمَالِ ومَكَارِهَهُ ونَوَاهِيَهُ وأَوَامِرَهُ وأَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ واتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ". (نهج البلاغة، الخطبة 86 و 176).

وقال: "فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ وصَامِتٌ نَاطِقٌ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ". (نهج البلاغة، الخطبة 183). ولم يقُلْ: إن القرآنَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الأنبياء والأئمَّة فحسب!

وأثنى حضرة أمير المؤمنين علي u  على من جعل القرآن إمامه (الخطبة 87) واشتكى ممن لم يجعل القرآن إمامه (الخطبة 147)([7]).

لقد أراد الراوي من وضعه لهذا الحديث أن يقلل من أهمية القرآن الكريم في هداية الناس، وأن يوجد شكاً في قابلية هذا الكتاب الإلهي للفهم مِنْ قِبَلِ عامَّة الناس، لذا قال: إن الْمُرْجِئَ وَالْقَدَرِيَّ وسائر فرق الإسلام المنحرفة وحتى الزَّنَادِقَة يستدلون بالقرآن ويستندون إليه لإثبات مقاصدهم!

لكننا نقول: إن كلامه هذا ادعاء باطل ودليل عليل، ونقول في بيان بطلان كلامه ما يلي:

أولاً: لو كان ادعاؤك صحيحاً لوجب أن لا يكون هناك خلافات بين الإمامية أنفسهم الذين يعتبرون كلام الإمام حُجَّةً. لكننا نجد أنهم هم أيضاً أصبحوا مائة فرقة، مثل الشيخية والأصولية والأخبارية والصوفية والمعارضون للصوفية والمؤيدون للفلسفة والمعارضون لها، والمؤيدون للثورة قبل ظهور المهدي والمعارضون للثورة والعمل السياسي.

وتَرَى أحدَهُم، مثل آية الله الحاج آقا حسين القمي (رحمه الله)، يقول: إن صلاة الجمعة في زمن الغيبة واجبةٌ عيناً، في حين يفتي آخر، كالشيخ عبد النبي العراقي، بأن صلاة الجمعة محرَّمةٌ في زمن الغيبة!!! وثالثٌ يراها واجبةً وجوباً تخييرياً!! وهكذا..... فهؤلاء أيضاً كل منهم يحتج بقول الإمام ويستند إليه ويخاصم مخالفيه به! فكما أن القرآن - حسب قولك - يحتاج إلى قيِّم، فقول الإمام أيضاً يحتاج إلى قيِّم!

ثانياً: نسأل جناب «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ»: هل تؤمن بآية: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٍ ﴾ [النحل/103]، وآية: ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء/194-195]، والآيات العديدة الأخرى في القرآن التي اعتبرته كتاباً مُبِيناً أم لا؟ نأمل أن تكون إجابتك إيجابية طبعاً، وعندئذ قل لنا كيف يكون القرآن كتاباً مُبِيْناً مع أنه لا يمكن لأحد أن يفهم معانيه ومراميه أو أن كلَّ شخص يفهمه على نحو مختلف عن الآخر؟ إن ما تقله عن القرآن يجعله أولى بوصف «لسان عربي غير مبين» منه بوصف «لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٍ»! ويجعله «كتاباً مبهماً» لا «كتاباً مُبِيناَ»!

ثالثاً: نسأل ««مَنْصُورَ بْنَ حَازِمٍ»: إن كنتَ ملتزماً بالقرآن ومؤمناً به، وتعتبره كتاب الله تعالى، فكيف تقول ما يوحي بأن في بيانه عيباً ونقصاً وتعتبره غير كاف لهداية الناس؟ لماذا لا ترى العيب فيمن خاطبهم القرآن الذين يحملون آراءهم المذهبية على القرآن ولا يلتزمون بقواعد الاستنباط من كتاب الله وأصوله الصحيحة، بل يستخدمون آياته استخداماً سيئاً ويمارسون أنواع المغالطات فيؤدون إلى وقوع الاختلاف؟

لو قلتُ كلامي ورأيي باسم القرآن، وقلتَ أنتَ كلامك ورأيك باسم القرآن، فما ذنب القرآن في كونك وإياي قد اتخذنا عقائدنا قبل الرجوع إلى القرآن، ثم جئنا إلى القرآن لنثبت منه رأينا، ونجعل كلام الله وسيلة لتقوية عقيدتنا والاستدلال عليها؟

رابعاً: نحن لا نقبل بأي وجه من الوجوه أن يكون أهل الباطل قادرون فعلاً على الاستشهاد بآيات القرآن لإثبات باطلهم، لكننا نُقِرُّ بأنهم قد يستندون إلى القرآن بالمغالطة وبطرق غير صحيحة، وأن يسيئوا الاستفادة منه، وفي هذه الصورة فهذا لا يدل على ضعف القرآن ونقصه، بل العيب في عمل المدعي، وإلا فإذا تم الاستدلال بالقرآن والاستناد إليه بشكل غير معيب ومنطقي تماماً، ومع مراعاة جميع الأصول الصحيحة للتفسير والاستنباط فإنه من المستحيل في نظرنا أن يُستدَل عندئذ بالقرآن على عقيدتين متباينتين.

في نظرنا لو لاحظنا سياق الآيات - والذي يُعَدُّ في نظرنا من القرائن المهمة جداً في فهم مقاصد القرآن - وأمعنَّا النظر في صدر الآية وذيلها، أو وضعنا نصب أعيننا الآيات التي قبلها والتي بعدها، وأغلب المستدلين بالقرآن يتعمَّدون إغفال ذلك، ولم نعدل عن المعاني اللغوية للألفاظ دون دليل موجه، واستفدنا في توضيح مفاهيم القرآن من أساليب البيان المتَّبعة في لسان قوم النبي J الذين نزل القرآن بلسانهم من الاستعارة والكناية وغير ذلك من فنون البيان الأدبية، وفسرنا الآية على نحو يتفق مع الآيات الأخرى ذات الصلة بها، ويتناسب معها، أي راعينا في تفسيرنا للآية ما ورد في سائر الآيات المشابهة لها والمرتبطة معها، ولم نغفل القرائن الموجودة في الآية أو الآيات التي قبلها وبعدها ولم نسمح للأحاديث غير الصحيحة أن تتدخَّل في تفسير الآية، ففي هذه الصورة لن يكون من الميسور أن يستفاد بشكل سيئ من آيات القرآن، ولن يستطيع كل شخص أن يستنبط من القرآن أي نتيجة يريدها.

ولذلك لم يعتبر أميرُ المؤمنين عليٌّ u  مَن فَسَّرَ القرآنَ برأيه عالماً، بل عدَّه متظاهراً بالعلم، وقال: "وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَ أَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَ قَوْلِ زُورٍ قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ وَ عَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائه". (نهج البلاغة، الخطبة 87).

نعم لقد تلاعب الفلاسفة والصوفية مثل «ابن سينا» و «ابن عربي» و «الملا صدرا» وكثير من المتكلمين و..... بالقرآن ولم يراعوا تلك الأصول التي أشرنا إليها في الأسطر السابقة، فمثلاً نجد أن «الملا صدرا» يستند لإثبات رأيه الفلسفي إلى الآية 88 من سورة النمل - التي تتعلق بأحوال القيامة - استناداً غير موجه أبداً، حتى أن بعض أنصاره اعترفوا في هذا المورد بأن عمله كان غير موجه، أو استدل بشكل غير صحيح بآية: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف/49] على أن الوجود المطلق يشمل سائر مراتب الوجود مع أن كل من له علم بالقرآن يعلم أن هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بما يرمي إليه، بل تتعلق بصحيفة الأعمال يوم البعث، ويقول: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف/49].

نعم، لقد حذف «الملا صدرا» صدر الآية وذيلها، فكان استناده إلى الجملة التي في وسطها واضح البطلان.

لو أن شخصاً قد تبنَّى من قبل رأياً شخصياً حول الله تعالى مثل فرقة المجسمة القائلين بأن لِـلَّهِ - عزَّ اسمه - يد وعين وأعضاء أخرى، وتشبث بقوله تعالى: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح/10]، فهو في الواقع شخص جاهل بمعاني القرآن لم يستدل به بشكل حقيقي، لأن من له علم جيد بالقرآن يعلم أن لسان قوم النبي J لا يخلو من المجاز والتشبيه والاستعارة و.....، ولذلك فإنه يعبر عن القدرة وعن التأييد وعن امتلاك الشيء والتصرف به بكلمة «اليد»، هذا إضافةً إلى أنه ليست كل يد عضواً، فمثلاً نقول «يد الاستعمار» ومن الواضح أنه ليس المقصود من ذلك إثبات عضو من الأعضاء أو جزء من الأجزاء للاستعمار! علينا أن ننتبه أن مثل هذا التفسير التجسيمي ناشئ من عدم الانتباه إلى آيات القرآن الأخرى، وإلا لو رجعنا إلى القرآن لتفسير الآية المذكورة لرأينا أن القرآن يقول: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة/237]، ويقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ [الأعراف/57]، ويقول: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج/10]، ويقول: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء/29]، وغيرها من الآيات..... التي يتضح منها أن القرآن لا يستخدم اليد دائماً بمعنى العضو الخاص ببدن الإنسان، فالذي يريد أن يستدل بالآية العاشرة من سورة الفتح على أن لِـلَّهِ يداً، لم يستدل بالآية في الواقع، بل أساء الاستفادة منها، لأنه بمعزل عن مخالفته للعقل السليم، أخل بأصلين على الأقل من أصول التفسير الصحيح.

خامساً: إن ادعاءك هو عين القول الضعيف والباطل للذين يقولون إن القرآن غير قابل للفهم إلا بمعونة الحديث، حتى أنهم يسيئون الاستفادة من الآية 44 من سورة النحل المباركة، ويدَّعون أنه طبقاً لهذه الآية: أولاً: القرآن نزل على النبي و «إنما يعرف القرآن من خوطب به!». ثانياً: يستدلون بجملة:﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ [النحل/44] أن القرآن غير قابل للفهم دون قول النبي والإمام، وأننا لابُدَّ أن نرجع إلى بيان المعصوم لنفهم معنى الآيات والمقصود منها!

لقد بينا بطلان هذا الادعاء بشكل مفصل في مقدمة كتابنا «تابشى از قرآن الفصل 15» [شعاع من القرآن]، كما ردَّ أخونا الفاضل السيد «مصطفى الحسيني الطباطبائي» في كتابه «راهى به سوى وحدت اسلامى» [أي طريقٌ نحو الوحدة الإسلامية] (الطبعة الأولى، الصفحة 150 فما بعد) تلك الدعوى الباطلة أيضاً وفنَّدها بأوضح الأدلة. وهنا نُذَكِّرُ بأهمِّ المطالب المتعلقة بهذا الأمر على نحو الإجمال:

1- أنتم الذين تدَّعون أن القرآن لا يمكن فهمه من دون قول الإمام، كيف نسيتم قولكم وفهمتم الآية 44 من سورة النحل دون تفسير الإمام لها، واستندتم إلى تلك الآية لتقوية كلامكم؟!([8]).

2- قلنا مراراً إن الأئمَّة - عليهم السلام - قالوا مراراً إنه لابُدَّ من عرض الأحاديث المنقولة عنهم على القرآن لتبين صحتها من سقمها، فإن وافقت القرآن فاقبلوها، وإلا فلا. وقد اعتبر أشخاص مثل الشيخ مرتضى الأنصاري هذه المجموعة من الروايات المنقولة عن الأئمَّة والتي يوصون فيها بعرض ما يُنْقَل عنهم على القرآن، روايات متواترة معنوياً، وعليه فلا يمكن أن يأمر الإمام (ع) بالرجوع إلى القرآن لتشخيص صحة الروايات من عدم صحتها، من جهة، ثم من الجهة الأخرى يقول لنا: إن القرآن غير قابل للفهم دون الروايات! لأن هذا يستلزم الدور الباطل، أي يستلزم أن يستند فهم معاني القرآن إلى الروايات، وتستند معرفة صحة الرواية من سقمها إلى القرآن، الذي لا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى الروايات (أي حلقة مفرغة)!

3- أنتم تعلمون جيداً أن الروايات أيضاً متباينة ويعارض بعضها بعضاً، فماذا نصنع بمثل هذه الروايات؟ وبأي ميزان نرجح بين الروايات المتعارضة؟

4- إن كثيراً من آيات القرآن الكريم ابتدأت بتوجيه الخطاب إلى الناس بشكل عام بما يشمل جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وقد أُمِرَ النبيُّ الأكرمُ J أن يتلوها على الناس بهذه الصورة، فكثيرٌ من آيات القرآن يبتدئ بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ و﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾ و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾. ولولا أن الناس قادرون على فهم خطاب الله - أي القرآن -، لما وجَّه اللهُ تعالى خطابَه إليهم.

5- عاتب الله تعالى عباده على عدم تدبرهم القرآن (النساء/82)، ولو كان القرآن غير مفهوم ولا يمكن لأحد أن يعلم معانيه إلا الإمام، لما عاتب الله الذين لم يتدبَّروه.

6- لو كان القرآن غير قابل للفهم، ولا يفهمه إلا الإمام فقط، فكيف فهم الجنُّ القرآنَ لما سمعوه دون أن يستعينوا على ذلك بقول الإمام، وآمنوا بالقرآن (الجن/1 و 2)، وهل الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات أقل شأناً من الجن؟!

7- لو كان القرآن غير قابل للفهم، ولا يفهمه إلا الإمام فقط، فلماذا قال القرآن عن المؤمنين بأنهم ﴿..وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [الأنفال/2]؟ ولم يقل (إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ - وبُيِّنت معانيها لهم أو فسَّرها النبي أو الإمام لهم - زادتهم إيمانا)!!

8- لو كان القرآن غير قابل للفهم، ولا يفهمه إلا الإمام فقط، فلماذا كان كفار قريش قلقون من انتشاره بين الناس؟ وكانوا يقولون: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾[فصلت/26]، إن الكلام غير المفهوم لا يمكن أن يسبب القلق.

9- لم يُوَفِّر الكفَّارُ والمشركون أيَّ جُهْدٍ في محاربتهم للنبيِّ وكتابه، ولو كان القرآن المجيد غير قابل للفهم من دون توضيح النبيِّ والإمام وبيانهما، لكان أفضل حجة يمتلكها الكفار والمشركون ضد الإسلام أن يقولوا إن محمَّداً يتكلَّم كلاماً مبهماً لا يُفهم المقصود منه بشكل صحيح ولا نتوقع أكثر من هذا من فرد أمي لم يذهب إلى المدرسة، ولم يتعلم فيها! كما أن مثل هذا الأمر سيكون أفضل حجة للشك في سلامة عقل النبي J، وكان بإمكان أولئك الكفار أن يقولوا للناس: ألا ترون أن كلام محمَّد - J - ليس بيِّناً ولا بليغاً ولا يتَّضح أحد يفهم ما هو مقصوده، لا أكثر الناس فحسب، بل حتى الأفراد ذوو الألباب والعلماء أيضاً! أو كان بإمكان الكفَّار أن يقولوا: إن كلام محمَّد ليس كلام رب العالمين، لأن الله قادر على بيان مراده بكلام مفيد وواضح وبليغ، بل هو أقدر من أي أحد آخر على إفهام مقاصده لمخاطبيه. هذا كله مع أن تاريخ النبي J وسيرته تثبت عكس كل ذلك إذ نرى أن الجميع دُهِشوا من فصاحة كتاب محمد J وبلاغته.

10- لو كان القرآن قابلاً للفهم بواسطة قول النبيِّ والإمام فقط، لكان من الواجب عليهم قطعاً أن يبيِّنوا معاني جميع الآيات ويفسروها للناس، ويتركوا هذا التفسير للمسلمين في المستقبل، وإلا لأصبح نزول القرآن عملاً عبثياً، وهذا لا يليق بالله الحكيم، فلماذا لم يترك النبي والإمام لنا بأمر من الله تفسير كل آية من القرآن على نحو نقطع بصدور ذلك التفسير عنهم، ويبقى بعدهم للأجيال اللاحقة؟ وذلك لأن أهمية هذا العمل هي بنفس درجة أهمية القرآن، لأنها تمثل الطريق الوحيد لانتفاع الناس بكتاب الله. لست أدري! لعلكم تعتقدون أن النبي والإمام - نعوذ بالله - قصرا في أداء وظيفتهم.

11- يعتبر علماؤنا محقين أن القرآن قطعي الصدور، وأن الأحاديث ظنية الصدور، وعندئذ نسأل: كيف يمكن أن يعتمد فهم الكتاب قطعي الصدور والذي لا يمكن تقليده على الأحاديث غير المتواترة ظنية الصدور التي يمكن تقليدها ومحاكاتها؟

12- إن استناد فهم القرآن إلى الروايات ليس في صالحكم، لأنكم عندئذ لن تستطيعوا أن تعتبروا سائر الفرق ليست على حق، لأنهم هم أيضاً يتمسكون بأحاديث ويفهمون آيات القرآن طبقاً لتلك الأحاديث، أو بالواقع يحمِّلون القرآن آراءهم التي اعتنقوها قبل الرجوع إلى القرآن. فهل باؤك تجرُّ وبائي لا تجرُّ؟!

13- والأهم من كل ذلك أن ادعاءكم هذا مخالف لآيات القرآن التي اعتبرت الكتب السماوية نوراً، فالنور مظهر للوضوح، ولا يحتاج إلى من يوضحه، بل هو مشع ومضيءٌ ومُوّضِّح للأشياء الأخرى (المائدة/44 و 46- الأنعام/91) بل اعتبر القرآن نفسه نوراً أيضاً (المائدة/15-الأعراف/157-التغابن/8).

وما ندعيه هنا لا يستند إلى استنباطنا من آيات القرآن فقط، بل يستند أيضاً إلى كلام عليٍّ (ع) الذي تعتبرون كلامه مبيناً للقرآن ومفسراً له. لقد اعتبر أمير المؤمنين علي u  القرآن نوراً، وقال عنه:

«الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ وَالنُّورِ السَّاطِعِ وَالضِّيَاءِ اللَّامِع‏» (نهج البلاغة، الخطبة 2)

و«النُورُ المُبِيْن» (نهج البلاغة، الخطبة 156)

«النُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ الْقُرْآن‏» (نهج البلاغة، الخطبة 158)

«أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُه‏....... وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ‏» (نهج البلاغة، الخطبة 198).

14- لقد استفدتم بشكل خاطئ وبمغالطة من الآية 44 من سورة النحل. ومغالطتكم واضحة جداً ولا يمكنها أن تخدع إلا الجاهلين بالقرآن الذين يظنون أن لفظ «التبيين» لا يستخدم إلا بمعنى الشرح والتفسير والتوضيح، وإلا فإن كل من له علم بالقرآن، يعلم أن فعل التبيين له أكثر من معنى، وإحدى معانيه هو ما يقابل الإخفاء والكتمان، وقد ذُكِرَ هذان المعنيان متقابلين في كثير من الآيات، وذلك كقوله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [المائدة/15]، وقوله أيضاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ 159 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 160﴾ [البقرة/159-160]. وقوله تعالى أيضاً: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران/187].

كما تلاحظون استُخدِم مصدر «التبيين» في هذه الآيات بالمعنى المضاد والمقابل لـ «الكتمان»، واعتبر الله «التبيين» وإظهار القرآن واجب أهل الكتاب جميعهم، ولم يجعل ذلك منحصراً بالإمام والنبي.

وحتى لو اعتبرنا أن «التبيين» لا يأتي إلا على معنى الشرح والتفسير والتوضيح (وهو ليس كذلك بالطبع) فلن تحصلوا على مقصودكم أيضاً، لأن الله تعالى بين في آيات متعددة أنه هو سيقوم بهذا العمل، أي بتبيين القرآن، ولا شك أن التبيين الإلهي لا يحتاج إلى تبيين غيره. لقد جاء ذلك في آيات عديدة من جملتها الآيات: 118، 187، 219، 221، 242، 266، من سورة البقرة، والآيات: 103، 118، 138 من سورة آل عمران، والآيات 26، 176، من سورة النساء، والآيات 75، 89، من سورة المائدة، والآية 115 من سورة التوبة، والآيات 18، 58، 59، 61 من سورة النور، و.....

أجل، إن الرواية التي ذكرناها ولاحظنا الدلائل على بطلان متنها هي من هدايا جناب «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» التي أتحف بها المسلمين، وقد روى مثل هذا الشخص صاحب مثل هذا الاعتقاد أول حديث في هذا الباب الذي يخالف متنه مذهب الشيعة، بل يخالف العقل والقرآن، لأن القائل بالجبر يدعي أن الله خلق بعض الناس سعداء، وبعضهم أشقياء في حين أن العقل السليم يقول: لو أن الله خلق شخصاً شقياً وعذبه يوم القيامة لَعُدَّ ذلك ظلمٌ، والله تعالى رحيم وحكيم وليس بظلام للعبيد، وقد نفى الظلم عن نفسه بالقرآن، بل السعادة والشقاوة كسبيان، فالإنسان يهيئ لنفسه أسباب السعادة بما يكتسبه من عِلْمٍ وما يقوم به من عمل صالح، أو يهيئ لنفسه أسباب الشقاء بجهله وبأعماله الفاسدة.

والقرآن الكريم أيضاً ذكر لنا قول أمثال «مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ» على لسان الكفار والمشركين الذين يدعون أن كفرهم وشقاءهم كان بإرادة الله ومشيئته! كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا﴾ [النحل/35]، وقال أيضاً: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ [الزخرف/20].

ولا ندري كيف أصبح كتابٌ، معظم رواته أفراد فاسدو العقيدة جاهلون بالقرآن وبعضهم يروي أحاديث تفيد الجبر وتخالف عقيدة الشيعة، وينشر مثل هذه الأحاديث بين الشيعة، موضع اهتمام وتقدير مِنْ قِبَلِ علماء الشيعة، واعتبروه كافياً لدينهم ودنياهم!

ß الحديث 2 - مرفوع، وكلا المَجْلِسِيّ و البِهْبُودِيّ لم يعتبراه صحيحاً.

وقبل أن يبدأ المَجْلِسِيّ بتلفيق الكلام لتوجيه هذا الحديث، اعترف قائلاً:

"وَهُوَ في غَايَة الصُّعُوبَةِ وَالإشْكالِ، وَتطبيقُهُ عَلَى مَذهَبِ العَدْلِيَّةِ يَحتَاجُ إلى تكلُّفَاتٍ كثيرةٍ". 

ثم قال:

"والعجب أن الصدوق - قُدِّسَ سِرُّه - رواه في [كتاب] «التوحيد» ناقلاً عن الكُلَيْنِيِّ بهذا السند بعينه ولكن خلافاً للكافي الذي قال: "وَمَنَعَهُمْ إطَاقَةَ القَبُول مِنْهُ". [أي أن الله منعهم من قبول كلامه وطاعته!]، قال: "وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ إِطَاقَةَ القَبُولِ مِنْهُ"([9]).

وخلافاً للكافي الذي يقول: "وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَأْتُوا حَالًا تُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ"، قال الصدوق: "وَإِنْ قَدِرُوا أَنْ يَأتُوا خِلالاً يُنْجِيهِم عَنْ مَعْصِيَتِهِ".

ثم قال المَجْلِسِيُّ:

"و لا أدري أن نسخته كانت هكذا أو غَيَّرَهُ ليوافق قواعد العدل، و يشكل احتمال هذا الظن في مثله".

واعترف المجلسي أيضاً في نهاية توجيهاته المُتَكَلَّفة للحديث قائلاً:

"والقول بظاهره لا يوافق العدل"([10]).

ونقول نحن أيضاً: أولاً: إضافةً إلى كون الحديث مرفوعاً فإن أحد رواته «شُعَيْبٌ الْعَقَرْقُوفِيُّ» الذي وثقوه للأسف، رغم أن الأحاديث التي رُويَت عنه لا توافق القرآن. من ذلك روايةٌ رُوِيَت عنه في رجال الكشي (طبع كربلاء، ص 375) هي بلا شك كذب محض، ومعارضة للقرآن الكريم. لأنها تقول إن الإمام الكاظم (ع) كان يعلم الغيب، بل يعلم موعد موت الآخرين! حتى «الكشي» أبدى شكه وقال: الله أعلم بهذه الرواية! (أي هل هي حق أم باطل)([11]).

من الواضح تماماً أن مثل هذه الادعاءات مخالفة للقرآن الذي يقول: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان/34]، فكيف يمكن للإمام الذي لا يوحَى إليه أن يطلع على أسرار الناس وزمان موتهم، في حين أن رسول الله J رغم أنه كان يوحى إليه، لم يكن مطلعاً على وقت موت أحد، كما تثبت ذلك حادثتا «الرجيع» و «بئر معونة» اللتان وقعتا في السنة الرابعة من الهجرة، وقتل فيهما عدد من أصحاب النبي J ولم يكن للنبي علم سابق بذلك([12]).

بعد أن تعرفنا على أحد رواة هذا الحديث، من المناسب أن نقوم بدراسة لمتنه. إن متن هذا الحديث صريح في الجبر ونسبة الظلم إلى الله تعالى، لأن راويه يدعي - كما قلنا - أن عدداً من عباد الله لا يمكنهم أن يكتسبوا حالةً تنقذهم من عذاب الله.

إذا كان الأمر كذلك فلنا أن نسأل الراوي أو الكُلَيْنِيّ: كيف يكلف الله تعالى شخصاً عاجزاً عن اكتساب حالة تنقذه من العذاب، بالعمل الصالح أو بالتوبة التي توجب نجاته من العذاب؟!! من هذا يتبين أن الله في كتاب «الكافي» غير الله في القرآن الكريم!

ß الحديث 3 - اعتبره المَجْلِسِيّ مجهولاً([13])، ولكنه في نظرنا ضعيف لوجود «أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ البَرْقِيِّ» في سنده. ومتنه أيضاً صريحٌ في الجبر ومخالفٌ لتعاليم الأئمَّة لأنه ما من ريبٍ في أن أولئك الأئمَّة الكرام كانوا يخالفون تماماً مذهب الجبرية. فمتن هذا الحديث يتضمَّن الجُمَل: «يُسْلَكُ بِالسَّعِيدِ فِي طَرِيقِ الْأَشْقِيَاءِ» «وَقَدْ يُسْلَكُ بِالشَّقِيِّ فِي طَرِيقِ السُّعَدَاءِ». ففعل يُسْلَكُ المبني للمجهول يدل على أن فاعل الخير أو الشر لا ينتخب طريقه وليس له اختيار فيه. ألم يكن رواة هذا الحديث أو جناب الكُلَيْنِيّ يميِّزون بين الجبر والاختيار؟ أولم يكونوا يدركون تناقض هذه الأحاديث ومعارضتها للقرآن الكريم ولتعاليم الأئمَّة؟!



([1])   محمد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات، الطبعة الحجرية، باب في الأئمَّة عرض الله عليهم ملكوت السموات والأرض كما عرض على رسول الله)، ج 2، الحديث 6.  والحديث نقله المجلسي عنه  في بحار الأنوار، ج 26، ص 116.

([2]) راجعوا في هذا المجال تفسير «مجمع البيان» ذيل الآية 29 من سورة البقرة، والآية 54 من سورة الأعراف، والآية 3 من سورة يونس، وراجعوا أيضاً الكتاب القيِّم «تلخيص البيان في مجازات القرآن» تأليف الشريف الرضي، وتفسير «المنار» ج 8، ذيل الآية 54 من سورة الأعراف، وتفسير «مفاتيح الغيب» للفخر الرازي، ذيل الآية ذاتها، وراجعوا بشكل خاص فصل «حل الاختلاف في شؤون التوحيد» من كتاب «راهى به سوى وحدت اسلامى» [طريق نحو الوحدة الإسلامية] القيِّم تأليف الأستاذ: مصطفى الحسيني الطباطبائي.

([3])   صدر هذا الحديث ذكره المجلسي أيضاً بصورة الحديث الثاني من الباب 59 من الكافي.

([4]) أصول الكافي، ج 1، ص 188- 189.  ولم يصحِّح البِهْبُودِيّ هذا الحديث،  كما اعتبره المَجْلِسِيّ مجهولاً أيضاً، لكنه عدَّه بمنزلة الصحيح!

([5])   أصول الكافي، ج 2، ص 599.  و وسائل الشيعة، (أبواب قراءة القرآن، الباب الثالث)، ج 4، ص 828، الحديث الثالث.

([6])   أصول الكافي، ج 2، ص 596 - 598. و وسائل الشيعة، (أبواب قراءة القرآن، الباب الأول)، ج 4، ص 823، الحديث الأول.

([7]) راجعوا في هذا الصدد الصفحتين: 319- 320 من الكتاب الحالي.

([8]) سنبين المعنى الصحيح للآية المذكورة في الصفحات التالية.

([9])   أرى من المفيد ذكر نص الحديث في الكافي: "عَنْ شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) جَالِساً وَقَدْ سَأَلَهُ سَائِلٌ فَقَالَ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ! مِنْ أَيْنَ لَحِقَ الشَّقَاءُ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ حَتَّى حَكَمَ اللهُ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ بِالْعَذَابِ عَلَى عَمَلِهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): أَيُّهَا السَّائِلُ! حُكْمُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ بِحَقِّهِ، فَلَمَّا حَكَمَ بِذَلِكَ وَهَبَ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ الْقُوَّةَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَوَضَعَ عَنْهُمْ ثِقْلَ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ مَا هُمْ أَهْلُهُ، وَوَهَبَ لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ الْقُوَّةَ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ لِسَبْقِ عِلْمِهِ فِيهِمْ وَمَنَعَهُمْ إِطَاقَةَ الْقَبُولِ مِنْهُ، فَوَافَقُوا مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَأْتُوا حَالًا تُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ التَّصْدِيقِ وَهُوَ مَعْنَى شَاءَ مَا شَاءَ وَهُوَ سِرُّهُ".

([10]) المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج 2، ص 166-167.

([11]) رجال الكشي، طبع كربلاء، ص 376.

([12]) راجعوا هذا الأمر في كتب السيرة، كالسيرة النبوية لابن هشام.

([13]) جاءت هذه الرواية في الكافي برقم 4. ولا ندري هل سقطت الرواية رقم 3 من متن الكافي؟ أم تم وضع رقم 4 خطأ أمام الحديث الثالث في الباب.