62. دراسة أحاديث الباب 78 من الكافي ونقدها

هذه الأحاديث هي عبارة عن الأحاديث  3 و 6 و 8 و 9 من الباب 78 من الكافي [أي بابُ: أَنَّ أَهْلَ الذِّكْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ الْخَلْقَ بِسُؤَالِهِمْ هُمُ الْأَئِمَّةُ (ع)]

أ) كلا محمد باقر المجلسيّ ومحمد باقر البهبودي اعتبر الحديث رقم 3 غير صحيح، أما الحديث رقم 6 فاعتبره المجلسي موثقاً لكن الأستاذ البهبودي لم يقبل به ولم يذكره في كتابه «صحيح الكافي». لكن متن الحديثين معلول تماماً، لأنه يذكر ذيل الآية 43 من سورة النحل وذيل الآية 7 من سورة الأنبياء فقط وينسب إليهما معنى غير صحيح، في حين أن صدر الآيتين أوضح شاهد وأصرحه على أن المرادَ من «أهل الذكر» في الآيتين: علماءُ أهل الكتاب. 90إضافةً إلى ذلك نجد في متن كلا الحديثين أن السائل يسأل من الإمام: "حَقّاً عَلَيْنَا أَنْ نَسْأَلَكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: حَقّاً عَلَيْكُمْ أَنْ تُجِيبُونَا؟ قَالَ: لَا، ذَاكَ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا فَعَلْنَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَفْعَلْ".

حقَّاً، لو لم يقل الإمام حقائق الدين فما هي فائدة الإمام إذن؟ إن هذا مخالف للهدف من إرسال الرسل أساساً، ويؤدي إلى عدم تمام الحجة على الناس. (والحديث 3 من الباب 76 والحديث 3 من الباب 167 يتضمنان الإشكال ذاته).

إضافةً إلى ذلك نقول بشأن الآية 39 من سورة (ص) التي تم الاستناد إليها في نهاية الحديث رقم 3: إن الآية المذكورة لم تقل «هذا عِلْمُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ!» مع أن موضوع الحديث هنا هو إعلان حقائق الشرع وتعليمها، ولذلك فلا يمكن الاستناد إلى الآية المذكورة في هذا المقام لأنه لا علاقة لها بقضيتنا هنا.

وأساساً هل تجوز مثل هذه التأويلات المخترعة؟ وهل ادعاء تفويض أحكام الدين وأموره إلى الأئمة قياساً على تفويض الرئاسة إلى سليمان صحيح؟ هل أنتم موافقون على العمل بالقياس؟!

ب) كلا المجلسيّ والبهبودي اعتبرا الحديثين رقم 8 و 9 صحيحين! بالطبع نحن لا نتعجب من قبول المجلسي لهذين الحديثين وليس هذا مستغرباً منه، لكننا نتعجب من تصحيح الأستاذ البهبودي للحديثين رغم وجود اسم «أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ البَرْقِيِّ» غير الثِّقَةِ في سند الحديثين. كما أنَّ «الوشّاء» الذي روى الحديثين رقم 3 و 8 شخصٌ راوٍ للخرافات ولا يمكن الوثوق به والاعتماد على أحاديثه.

 91ومن رواة الحديثين أيضاً «أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ الْبَزَنْطِيُّ» الذي يروي حديثاً في تحريف القرآن ويدَّعي أنه لما كان بالقادسية وأُتِيَ بالإمام أبي الحسن الرضا (ع) "بعث إلي مصحفاً وأنا بالقادسية، ففتحتُهُ فوقعَتْ بين يديَّ سورةٌ لم تكن، فإذا هي أطول و أكثر مما يقرؤها الناسُ... الخ"([1]).

وبالطبع لا يمكن التعويل على حديث شخصٍ يروي مثل هذه الرواية.

92ويحتوي متن الحديث رقم 8 على عيوب الحديثَيْن المذكورَيْن أعلاه. واُدُّعي في الحديث 9 أن الإمام قال: "فُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْأَلَةُ وَلَمْ يُفْرَضْ عَلَيْنا الْجَوَابُ". واستشهد الإمام بآية النفر: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة/122] مع أنها تدل على خلاف ما يريده المدَّعي، لأن آية النفر هذه مطلقة في لزوم إنذار النافرين، فكيف يمكن أن يكون بيان حقائق الشرع وأحكامه وإنذار الناس واجباً بشكل مطلق على النافرين الذين لا ينحصرون بفرد محدد، ولا يكون بيان حقائق الشرع وأحكامه واجباً على النبي أو الإمام الذي هو فرد واحد في زمنه؟! هذا في حين أنه لو قصَّر أحد النافرين في أداء واجبه لأمكن أن يعوِّض فردٌ آخر عن هذا التقصير، أما النبيُّ والإمامُ اللذان يُعَدَّان مصدر إعلان حقائق الشريعة وأحكامها وبيانها والمرجع المنحصر في ذلك، لو لم يبينا الحقائق لكان ذلك بمثابة عدم إتمام الحجة، ولا يمكن لشخص آخر أن يقوم بعملهما. ولهذا السبب فإن أحكام مثل هؤلاء الأفراد بشأن «التَّقِيَّة» تختلف عن أحكام «التَّقِيَّة» لدى الأفراد العاديين.

بالنسبة إلى الآية 50 من سورة القصص التي تم الاستناد إليها في الحديث، يجب أن نعلم أيضاً أن هذه الآية الكريمة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بإظهار حقائق الدين أو عدم إظهارها، بل دعا الله في الآية التي قبلها (أي الآية 49) المخالفين للدين بأن يأتوا بكتاب أهدى من التوراة والقرآن، ثم قال في الآية موضع البحث (أي الآية 50): ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص/50]، فيَتَـبَيَّنُ من ذلك أنه - تماماً على العكس من ادعاء «أحمد البزنطي» - لم يكن النبي o يمتنع عن إبلاغ الشريعة وإظهارها حتى لأفراد متبعين لأهواء أنفسهم أيضاً. ولذلك قال في صدر الآية 50: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ... ﴾ ولا يمكن استخدام هذا التعبير بحق أشخاص لم يُقل لهم شيئاً. لأن الاستجابة وعدمها إنما تكون في مقابل الدعوة وإظهار شيء لا في مقابل الإمساك عن التبليغ والسكوت!! وكذلك لو قيل للمخاطَب كلامٌ عارٍ عن الصحة ومخالفٌ للحقيقة - مثلاً بسبب «التَّقِيَّة» - فلا يمكن ذمه لعدم استجابته لمثل هذا الكلام. بناءً على ذلك من الواضح أنَّ ما نَسَبَهُ «أحمد البزنطي» إلى الإمام خاطئ تماماً ولا يمكن اعتبار حديثه صحيحاً. لننتقل الآن إلى نقد وتمحيص سائر أحاديث الباب 110.

ß الحديثان 3 و 5 - سند الحديث 3  لا يُعتمَد عليه لوجود  «أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيَّ» فيه، وسند الحديث 5 فاسد أيضاً لوجود «ابن فضال» فيه. وتم الاستشهاد في متن الحديثين بالآية 7 من سورة الحشر وقد تبين معنا في الصفحات السابقة أن الاستناد إلى هذه الآية هنا ليس صحيحاً. 93إضافةً إلى ذلك لا علاقة أبداً لامتحان العباد في طاعتهم لرسول الله o أو عصيانهم له بتفويض أمر الدين له أو عدم تفويضه، لأن الناس يأخذون شريعة الله من النبي o فما يقوله النبيُّ لهم باسم الشرع عليهم أن يقبلوه وهذا هو امتحانهم، أي أنهم إذا أطاعوه يكونوا قد نجحوا في الامتحان وإن عصوه يكونوا قد رسبوا في الامتحان. وهذا أعم من أن يكون الأمر الذي أطاعوه أو عصوه أمر الله أو أمر الرسول أو تركيباً من الإثنين. بل كلامنا هو: بأي دليل صحيح ومقبول تدّعون أن أمر الدين فُوِّضَ إلى الرسول o وإلى أئمة الدين؟! ألم يقرأ هؤلاء الوضَّاعون للحديث قوله تعالى: ﴿حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف/33]. فلا يمكن أن ننسب كل أمر إلى الله استناداً إلى بضعة أحاديث ضعيفة لا توجِبُ علماً.

ß الأحاديث 4 و6 و7 - الحديث 4 من مرويات «عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» والذي سبق أن عرَّفنَا به([2]). والحديثان 6 و 7 اعترف المجلسيّ  بأنهما ضعيفان.

في الحديث 4 اُدُّعي أن رَسُولَ اللهِ o لما كان مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ لذا فإن الله فوَّض إليه تشريع بعض أحكام الدين! فمن جملة ذلك أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ الصَّلَوات الخمس رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ على المسلمين فَأَضَافَ رَسُولُ اللهِ‏ o إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ سبع ركعات على الصلوات اليومية!! إضافةً إلى ذلك شرع رسول الله o  34 ركعةً على أنها نوافل مستحبة بعد الصلوات المفروضة أو قبلها!! في هذا الحديث أيضاً كما في الحديث 7 اُدُّعي أن اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا   -أي الخمر المصنوعة من العنب فقط - فحَرَّمَ رَسُولُ اللهِ‏ o الْمُسْكِرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ!!

إن هذا الحديث يرمي إلى وصف النبي o بأنه - نعوذ بالله - أكثر حرصاً على خير العباد من الله تعالى، لأن الله حرم نوعاً واحداً من المسكرات ولم يحرم بقية المسكرات مع أنه لا يوجد أي فرق بينها وبين الخمر المصنوع من العنب، من حيث الضرر، فحرَّم النبي o سائر المسكرات لينقذهم من أضرارها!! .....الخ.

في الحديث 6 اُدُّعي أنَّ اللهَ لم يحدِّد لِـجَدِّ الميِّتِ سهماً من الميراث لكن النبيَّ اختصَّ جدَّ المتوفَّى بسُدُس التركة!.

واُدُّعِيَ في الحديث 7 أنَّ النبيَّ o هو الذي وضع دية العين ودية النفس!! حتى أن السائل يسأل: "هل وَضَعَ رَسُولُ اللهِ‏ o ذلك مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَاءَ فِيهِ شَيْ‏ءٌ  [أي من الوحي]؟ فقَالَ: نَعَمْ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَعْصِيهِ!".

هنا لا بد من أن نُذَكِّرَ بأمر هام وهو أن النبي o كان له شأنان:

الأول: شأن الرسالة وإبلاغ أحكام الشريعة للناس.

والثاني: شأن الزعامة وإدارة المجتمع الإسلامي.

في الشأن الثاني كان النبيُّ o يتَّخذ قراراته ويأمر وينهى ويتشاور مع المسلمين حول ما يرى فيه المصلحة للمجتمع حتى أنه كان أحياناً يأخذ برأي الآخرين ويعدل عن رأيه. ونماذج ذلك في كتب السيرة والتاريخ ليست بالقليلة. حتى أن المسلمين تربوا على التفرقة بين أوامر النبيo ونواهيه الصادرة باسم الشريعة والدين، وأوامره ونواهيه الصادرة عنه بوصفه قائداً للمجتمع الإسلامي ومديراً لشؤونه، فإذا قال النبي o أن القرار الفلاني أو الكلام الفلاني هو رأيي الشخصي وليس وحياً من الله فإن المسلمين كانوا يبدون رأيهم في هذا الأمر ويشاورون النبيَّ o في ذلك وإلا فلا. ولكنَّ الأحاديث التي ذكرناها هنا لا تتعلق بالشأن الثاني للنبي الأكرم o بل بالشأن الأول له، أي بشأنه كمبلغ لرسالات الله ومعلم لأحكام شريعة رب العالمين.

يقول القرآن الكريم حول الشأن الأول لرسول الله o: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم/3-4]. مدلول الآية الكريمة هو أن كل ما قاله النبي o على أنه شرع من الله فإنه يكون مسبوقاً بالوحي وَمِنْ ثَمَّ فلا شيء من مسائل الشرع قد فُوِّض إليه. لو كان هناك جزءٌ من مسائل الشرع قد فُوِّض إليه o لما كان هناك حاجة إلى الوحي في هذه المسائل، هذا في حين أن إطلاق الآية يخالف هذا الأمر. من هنا نرى أن النبي o كان أحياناً ينتظر الوحي مدةً طويلةً كي يتمكن من الإجابة عن سؤال أحد السائلين ولم يكن يقل شيئاً استناداً إلى رأيه. يقول القرآن الكريم للنبي o: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [يونس/15]. ويقول أيضاً: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ 44 لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ 45 ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ [الحاقة /44 - 46].

هل يمكننا - مع هذه الآيات - أن نقول إن محمداً o كان يحق له أن يأتي من عند نفسه ودونَ وحيٍ من الله بحكمٍ شرعيٍّ على أنه قانونٌ من قوانين الشريعة الإلهية؟ هل الرسول الذي قال كتابُه أكثر من مرة: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام/21] يمكنه أن يأتي بحكم من عند نفسه دون الوحي بوصفه حكماً شرعياً من عند الله؟

يقول القرآن الكريم: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى/48]. ويقول أيضاً: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [آل عمران/144]، ومعلوم أن عمل الرسول هو إبلاغ الرسالة والوحي فحسب، ويقول تعالى أيضاً: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [المائدة/99، النور/54، والعنكبوت/18].

فالنبي o يبلِّغ تعاليمَ الشرع وأحكامَه فقط وليس له نصيب أو مشاركة في تشريعها.

ونجد في تفسير «مجمع البيان» في تفسير الآية الأولى من سورة التحريم، أن النبي o عوتب على تحريمه على نفسه شيئاً أحله الله له، هذا رغم أن رسول الله J لم يحرِّم على المسلمين ذلك الشيء الذي أشارت إليه الآية، بل حرَّم ذلك على نفسه فقط وأراد أن يمتنع عن التمتع بأمر أحله الله له، فعاتبه الله تعالى وقال له: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم/1]. فلا يمكننا أن نقول -بعد هذه الآيات- أن النبيَّ o شرَّع بعضَ أحكامَ الشرع دون وحيٍ من الله؛ بل كل ما قاله النبيُّ [من شرائع الدين  وأحكام الله عز وجل] مستندٌ إلى الوحي، ولأجل هذا السبب يقول تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ....﴾ [النساء/80]. أي أن هذا النبي o - كما رأينا في الآيات السابقة- لا يقول شيئاً من عنده بل كل ما يقوله مسبوق بالوحي الإلهي. نعم، لو قالت الآية «من يطع الرسول لم يعص الله»، أو تعبيراً من هذا القبيل، لربما أمكن أن نلفق مثل هذا الكلام فنقول: إن بعض أحكام الشرع فُوِّض تشريعه إلى النبي o. لأن المؤمنين الذين يطيعون رسول الله J - في الموارد التي كان النبيُّ قد شَرَعَ فيها من عند نفسه حكماً دون نزول الوحي فيه - لا يعصون الله في ذلك وأيضاً لا يطيعونه، لأنه لم يقل لهم في ذلك المورد شيئاً حتى يُطاع أو يُعصى فيه. لكن الآية بشكلها الحالي تنص على أن الله تعالى لم يُفَوِّض إلى أحد شيئاً من مسائل الشريعة وأحكامها.

لاحظوا أن أحاديث هذا الباب لا تنسجم مع آيات القرآن، والمشكلة الأخرى هي أن الأحاديث المذكورة تخالف تلك المجموعة من الأحاديث التي تصرح أن الله أوجب سبع عشرة ركعةً يوميةً وأن النبي o أضاف عليها الصلوات المستحبة والنوافل فقط. وفيما يلي نموذجان لمثل هذه الأحاديث:

1- عن الإمام الرضا (ع) قال:" .. إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِنَّمَا فَرَضَ عَلَى النَّاسِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مَنْ أَتَى بِهَا لَمْ يَسْأَلْهُ اللهُ عَمَّا سِوَاهَا، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ J مِثْلَيْهَا لِيَتِمَّ بِالنَّوَافِلِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ النُّقْصَان‏"([3]).

2- وعن الإمام الرضا (ع) قال: "إنَّ رَسُولَ اللهِ J قَالَ فَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَفَرَضْتُ عَلَى نَفْسِي وَأَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِي بِإِزَاءِ كُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَيْنِ لِتَتِمَّ بِذَلِكَ الْفَرَائِضُ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ التَّقْصِيرِ وَالثَّلْم‏"([4]).

ونحن بالطبع نعتبر كلا المجموعتين من الروايات غير صحيح، أولاً لعدم توافقها مع القرآن وثانياً لأن هناك أحاديث متوافقة كلّها مع القرآن وتنقض تلك الأحاديث وتردُّها، ومنها الأحاديث التالية:

1- جاء في «مستدرك الوسائل» نقلاً عن كتاب «الاحتجاج» للطبرسي: أن أمير المؤمنين علي u قال: "قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ J وَكَانَتِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ قَدْ فَرَضْتُ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي خَمْسِينَ وَقْتاً وَهِيَ مِنَ الْآصَارِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَرَفَعْتُهَا عَنْ أُمَّتِكَ وَجَعَلْتُهَا خَمْساً فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ وَهِيَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ رَكْعَةً [تشمل جميع الصلوات المفروضة والمستحبة] وَجَعَلْتُ لَهُمْ أَجْرَ خَمْسِينَ صَلَاةً"([5]). كما جاء أيضاً نقلاً عن المسعودي: "ففرضت خمسين ركعةً ثم رُدَّت إلى سبعة عشر ركعةً"([6]).

2- عن الإمام الصادق u قال: "إن ذا النَّمِرَةِ أَتَى النَّبِيَّ J فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيَّ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ J: "فَرَضَ اللهُ عَلَيْكَ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"([7]).  ولم يقل له إن الله فرض عليك عشر ركعات وأنا فرضتُ عليك سبع ركعات أخرى!!

3- روى «عبد الرزاق الصنعاني» في كتابه «المُصَنَّف» الذي يُعَدُّ من الكتب الموثوقة والقديمة أن جبريل صلَّى بالنبي J إماماً ليعلِّمه الصلاة وأمَّ النبيُّ J الناسَ، قال: "فصلَّى جبريل بالنبيِّ J وصلى النبيُّ J بالناس، فطوَّل الركعتين الأوليين، ثم قصَّر الباقيتين، ثمَّ سلَّم جبرئيل على النبيِّ J، وسلَّم النبيُّ J على الناس"([8]).

هذا في حين أنه بناءً على أحاديث الكافي كان على جبريل أن يصلي ركعتين ركعتين ثم يضيف النبي o ركعتين عليهما.

4- رغم أن النبيَّ كان يكره الثوم كثيراً، لكنه لم يحرِّمْهُ. جاء في إحدى الأحاديث أن النبيَّ o قال: "مَنْ أَكَلَ هَذِهِ الْبَقْلَةَ الْخَبِيثَةَ فَلَا يَقْرَبْ مَسْجِدَنَا". فظن الناس أن النبيَّ حرَّم الثوم وقالوا: حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ J فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا"([9]).

ولو كان هناك أقل شيء فُوِّض من أمر الدين إلى النبي o لكان قد حرم الثوم على الأقل.

ß الحديث 8 - في هذا الحديث تم الاستناد إلى آية: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ [النساء/105]. لإثبات تفويض أمر الدين إلى الأئمة. ثم اُدُّعِيَ أن الآية تجري أيضاً في حق «الأوصياء»!

فنقول: أولاً: هذه الآية خطاب لرسول الله o فقط لا غير. فمن أين أتيتم بالأوصياء وأين وجدتم ذكرهم في الآية؟

ثانياً: الآية تقول: عليك أيها النبي أن تحكم بين الناس بما أراك الله وأنزله عليك، إذن؛ لم يُفَوَّضَ شيءٌ إلى رسول الله o بل كان من الواجب عليه أن يحكم استناداً إلى ما أراه الله وأنزله عليه من الوحي. تلاحظون أن الآية لا تذكر أيَّ شيءٍ بشأن التفويض.

ثالثاً: لنفرض أنه -استناداً إلى هذه الآية- فُوِّض أمر الدين إلى رسول الله، مثلاً استناداً إلى أنَّ النبيَّ o -كما يقول الحديث 4 - كان موفَّقاً وَمُؤَيَّدَاً بالوحي وبروح القدس وكان أميناً على كلام الله، فما علاقة ذلك بالأوصياء، فالأوصياء لا يوحى إليهم. ومن الناحية الأخرى كان حضرة عيسى (ع) مُؤَيَّداً أيضاً بالوحي وبروح القدس، فلماذا لم يُفَوَّض إليه شيء من أمر الدين، لكنه فُوِّض إلى الأئمة فقط؟!

ثم إنه طبقاً لادعائهم، أحد الفروق بين الإمام والنبي هو أن النبي لا يلزم أن يتَّبع شريعة من سبقه من الأنبياء بحذافيرها، بل من الممكن أن ينسخ بعض أحكام شرائع من سلف من الأنبياء، أو يغيرها، أما الإمام فليس كذلك، بل هو مُفَسِّرٌ لدينِ النبيِّ وحافظٌ ومبَلِّغٌ له. وهذا لا يحتاج إلى تفويض أمر الدين إليه.

لا أدري كيف يعتبر علماؤنا «الكُلَيْنِيَّ» والمدافعين عنه موحدين حقَّاً مع أنهم يجيزون لأحد أن يشارك الله تعالى في أمر تشريع أحكام الدين!! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. اللهم اشهد أنني بريء مما يقولون.

وعلى كل حال الأحاديث التسعة الأولى لهذا الباب كلها تخالف القرآن، والحديث العاشر كما قلنا يخالف الأحاديث التي قبله. ويُراجَع أيضاً في ذلك ما قلناه حول الحديث 5 من الباب 168.



([1])   رجال الكشي، طبع كربلاء، ص 492. أو طبع مشهد، ص 588 - 589. وأيضاً أصول الكافي، ج 2، ص 431، حديث 16. وعبارته: "دَفَعَ إِلَيَّ أَبُو الْحَسَنِ [الإمام الرضا] (ع) مُصْحَفاً وَقَالَ لَا تَنْظُرْ فِيهِ! فَفَتَحْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيهِ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَوَجَدْتُ فِيهَا اسْمَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ! قَالَ فَبَعَثَ إِلَيَّ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالْمُصْحَفِ". (المُتَرْجِمُ)

([2])   راجعوا الصفحة 106 فما بعد والصفحة 156 من الكتاب الحالي.

([3]) الشيخ حسين نوري الطبرسي، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، الطبعة الحجرية، ج1، ص 176.  وهو أيضاً في وسائل الشيعة، ج1، ص 79، وبحار الأنوار، ج 67، ص 252، كلهم نقلاً عن كتاب الأمالي للشيخ الطوسي.  (المُتَرْجِمُ)

([4])   مستدرك الوسائل ، ج1، ص 176.  

([5])   مستدرك الوسائل، ج1، ص 176.

([6])   مستدرك الوسائل، ج1، ص 183.

([7])   الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج3، ص 35.

([8])   الحافظ عبد الرزَّاق الصنعاني، المُصنَّف، ج 1، ص 454.

([9])   صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة،  باب 17، ج 1، ص 395، حديث 565.