61. دراسة ونقد أحاديث الباب 110 من الكافي حول التفويض إلى النبي والأئمَّة

عَنْوَنَ الكُلَيْنِيُّ للباب 110 من الكافي بعنوان: (بَابُ التَّفْوِيضِ إِلَى رَسُولِ اللهِ‏ J وَإِلَى الْأَئِمَّةِ -عليهم السلام- فِي أَمْرِ الدِّينِ).

يشتمل هذا الباب على عشرة أحاديث، اعتبر المَجْلِسِيُّ السند الأول للحديث 1 مجهولاً لكنه اعتبر سنده الثاني صحيحاً. واعتبر الحديث رقم 3 صحيحاً، والسند الأول للحدث رقم 5 مُوَثَّقاً وبمنزلة الصحيح، واعتبر سنده الثاني صحيحاً!!  أما الأستاذ البهبودي فلم يُصَحِّح أي حديثٍ من أحاديث هذا الباب ولم يقبل أيَّاً منها.

ß الأحاديث 1 و 9 و 10 - في نظرنا ما قاله المَجْلِسِيُّ حول السند الثاني لهذا الحديث [أي الحديث رقم 1 ] غير صحيح، لأن السند المذكور فاسد وساقط من الاعتبار، لأن «أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيَّ» الذي جاء فيه وفي سند الحديث رقم 3، وفي السند الثاني للحديث رقم 5، وفي سند الحديث رقم 6، شخصٌ غير موثوق لا يمكن الاعتماد على رواياته([1]). ويجب أن نلاحظ، بالطبع، أن الرواية الأولى لهذا الحديث الأول أسنَدَت الحديث إلى الإمام الصادق (ع) في حين أسندت الرواية الثانية الحديثَ إلى الإمام الباقر (ع)! وسند الحديثين 9 و10 مجهولٌ حسب قول المَجْلِسِيِّ.

 يقول متن الحديثين 1 و 9 أن الإمامَ قَالَ: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوَّضَ [أمر الدِّيْنِ] إِلَى النَّبِيِّ ..............   وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ فَوَّضَ [أمر الدِّيْنِ] إِلَى عَلِيٍّ ...". واستشهد الإمام على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر/7].

فأقول: إن الآية المذكورة تتعلَّق بالفيء والغنائم التي يتم الحصول عليها دون قتال - مثل أموال يهود بني النضير-، فمثل هذه الأموال تكون حسب حكم الشرع بيد النبيِّ ومن بيده زمام سلطة المسلمين، ولا علاقة للآية بإظهار مسائل الشريعة وبيان حقائق الدين والإفتاء و..... . إن هذه الآية تخاطب المؤمنين بشأن الأمور المتعلقة بالفيء والذي أشير إليه في صدر الآية بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ......﴾ [الحشر/6]. فهذا الفيء هو المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر/7]. أي ما أعطاكم من الفيء فخذوه وما لم يعطكم منه فامتنعوا عن الأخذ منه، ولهذا السبب لم يقل في الآية «ما أمركم الرسول فأطيعوه» بل قال: «ما آتاكم فخذوه». فكما تلاحظون لا علاقة لهذه الآية بمقصود الرواية، ولا يمكن للإمام أن يقول مثل ذلك الكلام قطعاً. حتى أنه - طبقاً للحديث رقم 10 في هذا الباب - قال الإمام الصادق u: "فَكَانَ لَهُ [أي لرسول الله J] أَنْ يُعْطِيَ مَا شَاءَ مَنْ شَاءَ وَيَمْنَعَ مَنْ شَاءَ". فليس هناك في هذا الحديث أي إشارة إلى أن أمر الدين وأحكام الشريعة فُوِّضَتْ إلى النبيِّ o وأنَّ له أن يُشرِّع ما شاء من أحكام الدين، ولهذا فإن هذا الحديث رقم 10 لا يؤيد أحاديث هذا الباب الأخرى ولا يتوافق معها.

استناداً إلى ما تقدم، يتَّضح بطلان ما جاء في آخر الحديث 1 و 9 من الادعاء بأن النبيِّ أيضاً فَوَّضَ ما فُوِّضَ إليه من أمر الدين إلى الأئمَّة، لأنه لا يوجد في القرآن أصلاً أي أثر أو إشارة لتفويض أمر الدين إلى النبي o والآخرين.

في آخر الحديث رقم 1 اُدُّعِيَ أن الإمام قال: "وَنَحْنُ [الواسطة] فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟!! ". 

فلنا أن نسأل: لماذا لم يخبرنا الله الكريم في القرآن عن هذه الواسطة ولم يذكرها ولم يعرِّف عباده بها بل قال: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾ [فُصِّلَتْ/6].

وهناك، بالطبع، إشكالات أخرى في هذا الحديث سوف نشير إليها عند دراسة الأحاديث اللاحقة ونقدها.

ß الحديث 2 - لقد دَوَّنْتُ بعضَ الملاحظات على هذا الحديث نقلاً عن الكتاب القَيِّم «مغرب» [أي الغروب] تأليف آية الله السيد محمد جواد موسوي غروي الأصفهاني - الذي أتمنَّى أن يُوَفِّقَهُ الله لنشره وإفادة الناس منه - مع شيء من الإضافات والتصرُّف اليسير من عندي، قال:

"رُوِيَ هذا الحديث عَنْ «مُوسَى بْنِ أَشْيَمَ»، وهو شخص فاسد المذهب وضعيفٌ، إذْ روى «الكِشِّيُّ» أن الإمام الصادق u قال في شأنه:

"أَمَا وَاللهِ، إِنِّي لَأَنْفَسُ عَلَى أَجْسَادٍ أُصِيبَتْ مَعَهُ، يعني أَبِي الخطَّابِ، النَّارَ، ثُمَّ ذَكَرَ ابنَ أَشْيَمَ، قال: كان يأتيني هو وصاحبه [لعلَّه جعفر بن ميمون] وحفص بن ميمون ويسألوني فأخبرهم بالحقِّ، ويخرجون من عندي إلى أَبِي الخطَّابِ فيخبرهم بخلاف قولي فيأخذون بقوله ويذرون قولي!"([2]).

كما تلاحظون كان «ابنُ أَشْيَمَ» من أتباع أَبِي الخطَّابِ، أي كان قائدُه شخصاً لعنه الإمام وقال إن الشيطان ينزل عليه. ولا ريب أن هكذا شخصٌ لا يتورَّعُ عن نِسْبَةِ أيِّ كَذِبٍ إلى الإمام.

إذا ألقينا نظرة على متن الحديث لاسيّما ما جاء في آخره، تبيَّنَ لنا أن «ابنَ أَشْيَمَ» سأل عن آية لم يذكرها، ثم سأل ثلاثة أشخاص عن الآية ذاتها. من الواضح في هذا الحديث منذ بدايته وحتى نهايته أن «ابنَ أَشْيَمَ» وضع هذه القصة بهدف إظهار أحاديث الإمام الصادق u أحاديثَ لا أساس لها من الصحة بشكل عام، وأنها مبنيَّة على «التَّقِيَّة» لا على المسائل الحقيقية، حتى يُرَجِّحَ -بشكل خبيث وغير مباشر - «قَتادةَ» الذي كان كلامه موحداً لا اختلاف فيه وحسب قوله، كان لا يخطئ حتى بحرف الواو وأشباهه، ليس على الإمام الصادق u  فحسب، بل لكي يبين أنَّ «قَتادةَ» عالمٌ متينٌ ومُبَيِّنٌ لحقائق الدين وأن الإمام الصادق u هو على العكس من ذلك!!

وهنا نسأل:

أولاً: أي آية هذه التي تحتمل عدة أنواع من التفاسير المتعارضة والمتناقضة؟ ولماذا لم يذكر نَصَّ الآيةِ كي يطَّلِعَ عليه الآخرون؟! والواقع أنه لا توجد هكذا آية في أي مكان في القرآن الكريم!

ثانياً: كيف يحدث أن يأتي عدة أشخاص في ساعة معينة ويسألوا جميعُهُم عن تفسير آيةٍ واحدة؟ ومن كان أولئك السائلين؟ هل كانوا من أصحاب الأئمَّة أم من مخالفيهم؟ ولماذا لم يُشِر «ابنُ أَشْيَمَ» إلى هذا الأمر وتركه مبهماً؟

ثالثاً: ما الذي حدث حتى شعر الراوي -عندما سمع إجابة الإمام المختلفة للسائل الثاني- "كَأَنَّ قَلْبَهُ يُشْرَحُ بِالسَّكَاكِينِ"، لكنه عندما سمع إجابة الإمام للسائل الثالث، المختلفة عن كلا الإجابتين السابقتين، استقر قلبه واطمأن؟! لو كان مقرباً من الإمام وعارفاً به إلى تلك الدرجة التي تظهر من آخر الحديث حيث خاطبه الإمام وحده ولم يتَّقِ منه، فلماذا لم يحتمل «التَّقِيَّة» في الجواب الثاني أيضاً؟ وإن لم يكن له تلك المعرفة الوثيقة بالإمام فلماذا لم يبقَ على عقيدته الأولى عندما سمع الجواب الثالث المختلف؟ أليس من الواضح أن هدف الراوي أو الواضع لهذه القصة أن يرسِّخَ مسألة تقية الإمام الصادق u كي يصل إلى هدفه المطلوب وهو بذر الشك في كل أحاديث الإمام؟

رابعاً: 88إن هدف الراوي من الاستدلال بآية سليمان، عندما نسب إلى الإمام الصادق قوله إن الله أوحى إلى سليمان: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [ص/39] هو اتِّهام الإمام أنه قال: إن العلم نعمة إلهية، وقد أعطي إلينا، وقد خيَّرنا الله تعالى كما خير سليمان (ع) بين أن نعلِّم الناس من هذا العلم إن شئنا، أو نمتنع عن تعليمهم إن شئنا ونحرمهم من هذا العلم بأشكال مختلفة ونتركهم حيارى في أودية الجهل والباطل!!!

ثم إن الراوي «ابنَ أَشْيَمَ» حقَّق بواسطة هذا الحديث هدفاً آخر وهو أنه صور بشكلٍ ضمنِيٍّ الإمامَ - بسبب طريقة استناده إلى الآية واستدلاله بها على أمر لا تفيده - شخصاً يفسِّر آيات القرآن على نحو غير صحيح ويستنبط منها أموراً خاطئة أو يسيء الاستفادة من الآيات وَمِنْ ثَمَّ صوَّره بأنه جاهل بالقرآن!!

حقاً لقد كان «ابنُ أَشْيَمَ» شيطاناً مضلاً ذا خبرة ويد طولى في وضع الحديث وافترائه، إذْ أراد أن يضرب عدة عصافير بحجر واحد فقد استهدف صادق آل محمد u من عدة جهات كي يصور تلك الشخصية الرفيعة وكأنه - والعياذ بالله- شخصٌ مُحرِّفٌ للكتاب والدين وناشرٌ للأباطيل. ولا يُستَبْعَدُ أن يكون أخو هذا الراوي «عليٌّ» الذي اعتُبر في كتب الرجال مجهولاً من نفس قماش أخيه.

خامساً: من أهداف «ابنِ أَشْيَمَ» الأخرى لوضعه هذا الحديث أن يصور  نفسه - بشيطنة وتزوير - من خواصّ أصحاب الإمام الصادق u لأنه ادَّعى أن الإمام أجابه وأجاب ثلاثة أشخاص آخرين أجوبةً متنوّعةً ومختلفةً، وأنه حضر هذه الأجوبة الثلاثة كلها، فادعى أن الإمام لم يكن يخشَ من وجوده ومن إعطاء أجوبة مختلفة في حضوره، ليستنتج من هذا أنه كان من خواص أصحاب الإمام وأن الإمام لم يكن يتَّقِ منه، كما نجد أن الإمام خاطبه وحده في آخر الحديث وقال: يا ابن أشيم! إنَّ الله أوحى إلى سليمان.....الخ.

والراوي يحقق في روايته هذه نتيجةً أخرى أيضاً وهي أن يثبت أن الإمام من خلال استنباطه الخاطئ من الآية 29 من سورة (ص) لم يكن متقيداً في كلامه بالتقيَّة بل كان يقول في كل مكان كل ما كانت تميل إليه نفسُه ولم يكن يهتم بأن يكون كلامه موافقاً للحق!"([3]).   (انتهى كلام السيد الغُرَويّ).

سادساً: الآن يجب أن نمعن النظر في الآية التي تتكلم عن سليمان u كي نرى هل لها أية علاقة بأكاذيب «ابْنِ أشْيَمَ» أم لا؟

يقول القرآن الكريم: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ 35 فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ 36 وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ 37 وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ 38 هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ 39 وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾  [ص/35-40].

كما تلاحظون لقد حدَّد اللهُ في الآية 39 العطاءَ الإلـهيَّ الذي وهبه لسليمان باسم الإشارة «هذا»، أي أن العطاء الإلهي لم يكن سوى ذلك التسخير للريح وللشياطين والجنّ الذي ذُكِرَ في الآية السابقة، ومن الواضح تماماً أن تسخير الريح وطاعة الجن ليست بالأمر الذي يمكن إعطاؤه للآخرين أو إمساكه عنهم بغير حساب!  لهذا السبب تم استخدام كلمة «امنن» بدلاً من مادة «الهبة» أو «العطاء» أو «المنح»، وعبارة المنَّ في القرآن استُخدمت لإطلاق سراح الأسرى دون مقابل، إذ يقول القرآن: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد/4]. أي إما أن تحرِّروا الأسرى دون فدية، أو أن تأخذوا الفدية وتحرِّروهم.

وذكر الشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» هذا الوجه في تفسير الآية 39 من سورة ص وقال: "إن المعنى فأنعم على من شئت من الشياطين بإطلاقه أو أمسك من شئت منهم في وثاقه وَصَرِّفْهُ في عمله من غير حرج عليك فيما تفعله".

لاحظوا أنه من البعيد جداً عن البلاغة المعجزة للقرآن الكريم أن يعبِّر عن عطاء نبي الله وسخائه بعبارة «أمنُنْ»([4]). أما استخدام هذا الفعل في معنى تحرير الجن الذين أخذهم سليمان أسرى ليقوموا بخدمته -خاصةً إذا لاحظنا الآيات من 12 إلى 14 من سورة سبأ- فهو استخدام بليغ ومناسب تماماً.

ولما ذكر المفسرون وجهاً آخر لتفسير الآية -رغم أن هذا الوجه الآخر ليس بقوة الوجه الذي ذكرناه لأنه لا ينسجم مع القرائن الموجودة في الآية وفي الآيات التي قبلها وبعدها- فإنني سأذكره هنا نقلاً عن كتاب «مغرب» [الغروب] لآية الله الغروي، ليطلع عليه القراء المحترمون:

"في الوجه الثاني، المراد أنه يا سليمان! بما أنك عبدنا المطيع وأنك عالم بأحكامنا وأنك تعمل طبقاً لأوامرنا وأن إعطاءك أو إمساكك مبنيٌّ على الحكمة، فإننا لا نريد منك حساباً، لأننا إذا أردنا من شخص حساباً لربما تخلَّف وقصَّر. فمعنى الآية إذن: «هب من تشاء وامنع عمَّن تشاء دون أن يكون عليك حساب من قبلنا ودون أن تتعرَّض للمساءلة مِنْ قِبَلِنا حول ذلك». وهنا لابدَّ من توضيح حول هذا الموضوع:

بما أن دافع الإنسان لأعماله الاختيارية هو الشوق والإرادة، فإذا ترسَّخت في نفسه حقيقة العدالة فإن عادته المستمرة -بمقتضى هذه الملكة- ستكون إرادة العدل في أفعاله، ولن تنفكَّ عنه هذه الإرادة، فعندئذ سيضع كلَّ نعمة في المكان التي خلقت لأجله وسيمسكها عن غير محلها، فينفق المال في المكان الذي أمر الله فيه بالبذل والعطاء، ويمتنع عن إنفاق المال في المواضع التي نهى الله عن الإنفاق فيها؛ ولذلك قالوا: العدلُ وضع الشيء في موضعه والظلم وضعه في غير موضعه.

لقد أثنى الله تعالى على سليمان (ع) في هذه الآية مُبَيِّنَاً علوّ مرتبته فقال له في معرض تمجيده والثناء عليه: أعط الآخرين من النعم التي أنعمنا بها عليك أو أمسك عنهم، لأنك تعلم -بمَلَكَة العدل فيك- أين يجب البذل والإنفاق ومتى يجب الإمساك. فمَلَكَة العدالة التي فيك تجعلك عملياً لا تتخلَّف عن واجبك أبداً في هذا المجال، أي أن هذه الآية تتضمَّن بيان علم سليمان وعمله الذي وصفه الله بقوله: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص/30]. خاصةً أنه تعالى قال في الآية التي بعدها -أي الآية 40-: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾  [ص/40]، في حين أنه لو كان يبذل المال في غير موضعه أو يسرف لما قال تعالى ذلك في شأنه.

بناءً على ذلك فإن الاستدلال بهذه الآية [أي قوله تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾] لإثبات أننا معشر الأئمة يحقُّ لنا أن نُفَسِّر للناس آيات الكتاب أو نبيِّن لهم أحكام الله -في مقام «التَّقِيَّة» مثلاً- على نحو مختلف ومتنوع ومخالف للواقع (وهذا هو هدف «ابنِ أَشْيَمَ» من وضع هذه الرواية) ليس في محلِّه. والآية ليس فيها مثل هذه الدلالة، ولم يقل الإمام الصادق u أبداً مثل هذا القول.

إن وظيفة الأنبياء والأوصياء والعلماء تبليغ حقائق الدين ونشر العلم وتعليم الجاهلين وهداية الخلق وإرشادهم فإذا أخَلُّوا -نعوذ بالله- في هذه الوظيفة يكونوا قد تخلفوا عن القيام بالمهمَّة التي كلَّفهم الله بها وأصبحوا من المبغوضين والمغضوب عليهم! طبقاً لقوله تعالى: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾   [المائدة/67].

89وحتى الحديث الذي رُوي عن الإمام الرضا (ع) (الكافي، باب78، حديث3) أنه سئل: " حَقّاً عَلَيْنَا أَنْ نَسْأَلَكُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: حَقّاً عَلَيْكُمْ أَنْ تُجِيبُونَا؟ قَالَ: لَا، ذَاكَ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا فَعَلْنَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَفْعَلْ؛ أَمَا تَسْمَعُ قَوْلَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾؟‏"، لا يحل المشكلة ولا يتنافى مع الآية، لأنه لم يأت في الحديث أن لنا الحق أن نفتي أو نفسر القرآن بخلاف الواقع وعلى نحو متناقض، بل يفيد هذا المعنى فقط أننا يمكننا في بعض الحالات أن نمتنع عن الإجابة، يعني في أحوال نادرة وعندما نرى المصلحة في ذلك نلزم السكوت ولو بعنوان التَّقِيَّةِ، لأن التَّقِيَّةَ في الأفعال - التي هي من الموضوعات - جائزة على الإمام أيضاً. أما ما لا يجوز فهو تفسير الكتاب أو بيان الأحكام على نحو مخالف للحق والواقع.

وكما أن واجب كل جاهل أن يسأل فإن واجب النبي والإمام والعالم أولاً وبالذات أن يجيب، كما قال أمير المؤمنين علي u: "مَا أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا" (نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 478).

وروي في الكافي عن الإمام الصادق u أنه قال: "قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ u إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْجُهَّالِ عَهْداً بِطَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ عَهْداً بِبَذْلِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ". (الكافي، الباب 11، حديث 1).

وجاء في الكتاب العزيز: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل/43].

ورُوي في الكافي عن الإمام الصادق u أنه قال لِحُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ فِي شَيْ‏ءٍ سَأَلَهُ: "إِنَّمَا يَهْلِكُ النَّاسُ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ". (الكافي، باب 10، حديث 2).

فإذا كان السؤال عن حكم الله واجباً، فإن الإجابة الصحيحة ستكون واجبةً أيضاً، وإلا فكيف يمكن أن يقول الله -الذي بيَّن لنا أن كتمان الآيات وحقائق الشرع يستوجب اللعن (البقرة/ 159 و 174)-: يجب عليكم -من جهة - أن تسألوا لأجل أن تَعْلَمُوا، ثم يقول من الجهة الأخرى لأهل العلم: إن شئتم أجيبوا وإن شئتم لا تجيبوا أو أجيبوا جواباً غير صحيح أو غير واقعي!!"([5]). (انتهى من كلام آية الله الغروي)([6]).

وسنذكر الآن الأحاديث التي يُستفاد منها ذلك المضمون الذي تكلمنا عنه أعلاه (كون الإمام مخيراً بين أن يجيب أو لا يجيب) لنقوم بدراستها ونقدها:



([1])   للاطلاع على حال هذا الراوي راجعوا الصفحة 101 - 102 من الكتاب الحالي، وسيأتي مزيد من البيان لحاله في أواخر هذا الكتاب أيضاً.

([2])   رجال الكشي، طبع كربلاء، ص 293 - 294.  أو طبع مشهد، ص 344. وانظر: رجال ‏العلامة الحلي، ص 218. (المُتَرْجِمُ)

([3])   آية الله محمد جواد الموسوي الغروي الأصفهاني، مغرب [الغروب]، ص119- 120. (المُتَرْجِمُ)

([4])   خاصةً أن القرآن الكريم نهى عن المِنَّة في الصدقة والإنفاق والعطاء.

([5])   بالطبع يمكننا استناداً إلى الأمور التي ذكرت أعلاه أن ندرك بكل بساطة أن الحديث المذكور الذي تم فيه الاستناد إلى الآية 39 من سورة (ص) ليس صحيحاً بأي وجه من الوجوه.

([6])   آية الله محمد جواد الموسوي الغروي الأصفهاني، مغرب [الغروب]، ص 122- 124. (المُتَرْجِمُ)