3. المُقدِّمَة

اعلم أن الإسلام دينٌ إلهيٌّ يدعو الناس إلى الوحدة والاتحاد.

كان المسلمون في زمن النبيّ الأكرم o وحتى مدّة من الزمن بعد رحيل ذلك النبيّ الحبيب o، متَّحدين، ولم يكن لهم اسمٌ سوى اسم الإسلام والمسلمين، ولم يكونوا يعرفون كتابَ هدايةٍ سوى القرآن الكريم، ولم يكن بينهم اسمٌ من أسماء المذاهب الإسلامية المختلفة أو الكتب المذهبية، بل كان المؤمنون يعتبرون القرآن وحده حُجَّةً ومنبعاً للهداية، لأنهم قرؤوا في القرآن الكريم أن هذا الكتاب الإلهيّ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة/2]، وقرؤوا فيه: ﴿إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى﴾ [البقرة/120]، وكانوا يعلمون قول رسول الله o: «مَنْ طَلَبَ الْهِدَايَةَ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ أضَلَّه اللهُ»([1]).

أجل، كان المسلمون متحدين بسبب دينهم الواحد وكتابهم الواحد فتقدموا وأصبحوا أقوياء وعرَّفوا الأمم العديدة بالإسلام.

ولكن للأسف بعد مرور قرنين وُجِدَت أخبارٌ باسم الدين، وظهر أشخاصٌ باسم المُحَدِّثين أو المُفسِّرين وأَتَوْا بأمور نقلوها عن قول النبيّ o أو قول أئمة الدين وجذبوا اهتمام الناس نحوهم، وشيئاً فشيئاً بدأ يظهر علماء أو في الواقع أشباه علماء أوجدوا بما كتبوه من أخبار وأحاديث الاختلاف والتفرقة بين المسلمين.

وبحمد الله فإن القرآن الكريم قد بيَّن لنا هذه المشكلة من قبل وقال لنا في هذا الصدد: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [البقرة/213]، وقال أيضاً: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آل عمران/19]، وقال كذلك: ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [الجاثية/17].

يتبيَّن من هذه الآيات بشكلٍ واضحٍ وممتازٍ أنه بعد مجيء الكتب الإلهية التي دعت الناس إلى الوحدة، قام أشباه العلماء وأصحاب الأغراض والمصالح الشخصية بإيجاد الاختلاف بسبب الحسد والحقد والتعصب والظلم والاسترزاق بالدين والاستفادة من الآخرين وغير ذلك من الأغراض والمآرب التي لخصها القرآن بعبارة: «بَغْيًا بَيْنَهُمْ». لقد أوضح الحق تعالى إتماماً للحُجَّة وإرشاداً لطالبي الهداية وأهل الإنصاف، حال أمثال أشباه العلماء أولئك بشكل واضح كي لا ينخدع الناس بهم، ولذلك قال في شأنهم: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة/176]. كما أن الله تعالى جعل القرآن الكريم حَكَماً ومرجعاً في حلّ الخلافات وقال: عليكم بالرجوع إلى الكتاب الإلهيّ لرفع الفساد والاختلاف، كما قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ [الشورى/10]، وقال أيضاً: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء/ 59].

قال حضرة أمير المؤمنين عليّ u بشأن هذه الآية: «إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ............. فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ»([2]). وقال أيضاً: «فَالرَّدُّ إِلَى اللهِ اَلْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَاَلرَّدُّ إِلَى اَلرَّسُولِ اَلْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ اَلْجَامِعَةِ غَيْرِ اَلْمُفَرِّقَةِ»([3]). لاحظوا أن الإمام لم يقل: ارجعوا إلى الحديث، لأنه لم يكن هناك وجودٌ في زمانه لكتب الحديث بل كان قصدُهُ من سُنَّةِ الرسول o سُنَّةَ النبيِّ الأكرمِ o القطعيةَ الجامعةَ المقبولةَ لدى المسلمين جميعاً.

وللأسف، فإن علماءنا الذين أوجدوا الاختلاف لا يرجعون في اختلافاتهم مع المذاهب الإسلامية الأخرى إلى القرآن بل يرجعون في الغالِب بشكل أكثر إلى الأحاديث المذهبية ويعتمدون عليها، الأمر الذي يزيد من الفجوة والاختلاف.

وفي كتاب "الكافي" ذاته، في باب «الردّ إلى الكتاب والسُنَّة» توجد أخبارٌ تقول: ردُّوا كلَّ شيء إلى كتاب الله، لكن العجيب أن مثل هذه الأخبار لا تحظى بالاهتمام الذي تستحقه مِنْ قِبَل العلماء بل لا يلتزمون بها في كثير من الموارد خلافاً لما يدَّعونه!!

لقد كتب راقم هذه السطور هذا الكتاب ابتغاء رضا الله وأداءً لواجبي الشرعي ورفعاً للاختلاف والنزاع بين المسلمين ودعوةً إلى الوحدة والاتحاد بين المسلمين وإزالةً لأسباب البغض والشقاق والنفاق وبياناً لطريق الاتحاد، ولكي أُبيِّن أن السبب الأساسي للاختلافات المذهبية هو الأحاديث الموضوعة التي شاعت في كتب الحديث المتداولة بين الأيدي والتي نظنها حُجَّةً دينيةً ونعتبرها كافيةً لأهل مذهبنا([4]). وهذه الأخبار ذاتها هي السبب في الاختلاف وهي التي أوجدت الخرافات وأدت إلى ضلالنا، ولذلك فإن على علمائنا أن يشعروا بمسؤوليتهم ويسعوا لخير الناس ويُبيِّنوا لهم تعارض هذه الأخبار مع الحُجَّتين الإلهيتين: القرآن والعقل، ويُفهموا الناس أن أكثر الأخبار والأحاديث الموجودة في كتب حديثنا المعتمدة مضادّة للقرآن ومخالفة للعقل ومؤدية إلى خسران الدُّنْيَا والآخرة، وأن طريق النجاة الوحيد هو العودة إلى القرآن وقبوله حَكَمَاً في كل أمورنا، كما نصَّ على ذلك كتاب "الكافي" هذا ذاته فيما رواه عن رسول الله o من قوله:

«فَإِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ»([5]).

واعتبر أمير المؤمنين وسائر أئمة الإسلام الكرام عليهم السلام القرآن كافياً كما قال رسول الله o. فقال أمير المؤمنين عليّ u: «أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ»([6]). وقال: «كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَخَصِيماً»([7]).

والكلام الإلهي المبارك هو أهم من كل ذلك وهو يقول: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ [الفرقان/31]. وطبقاً لآيات القرآن فإن هداية الله الكافية هي هذا القرآن ذاته: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة/15، 16]، وقال تعالى أيضاً: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء/9]، وقال كذلك: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سبأ/6].

واعتبر اللهُ البشر عاجزين عن الإتيان بهدايةٍ أفضل وأهدى من القرآن: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى﴾ [القصص/49]، وقال تعالى حكايةً لقول الجِنّ: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ [الأحقاف/30]، وقال أيضاً حكايةً لقول الجِنّ: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ﴾ [الجن/1 - 2]، وقال كذلك: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران/103].

واعتبر اللهُ تعالى في آيات عديدة القرآن نوراً وهدايةً للمؤمنين فقال مثلاً: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل/89]. وفي آيات عديدة من القرآن، كما في الآية 120 من سورة البقرة التي ذكرناها آنفاً، حصر اللهُ الهداية بالقرآن واتِّباعه لا باتِّباع أي كتاب آخر، حتى أن الله تعالى يأمر رسوله o أن يقول: ﴿وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ/50].

وإذا كان الأمر كذلك، فهل يُمكننا أن نقول: إن مسلمي الصدر الأول وحتى زمن تأليف كتب مثل كتاب "الكافي" وأمثاله، لم يكن لديهم كتابٌ يكفي لمعرفة الدين إلى أن وُجد الكُلَيْنِيّ وأمثاله وألفوا كتب الحديث؟

ليس معنى كلامي بالطبع أنني –نعوذ بالله- أُنْكِرُ سنَّة رسول الله o أو أعارضها، بل إنني أُؤمن بها وأقبل بها تماماً وألتزم بها من صميم قلبي، كل ما في الأمر أن هذا الإيمان والالتزام هو بسنَّة النبيّ o الصحيحة القطعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين، وليس بتلك الأحاديث المليئة بالتناقض. 

وإذا وصل الأمر إلى الكلام عن الحديث فلا بدّ أن أذكر للقراء المحترمين عدداً من المطالب الهامة حول الروايات والأحاديث الموجودة:

من الواضح أنه لو كان هناك حديثٌ صادرٌ حقيقةً عن النبيّ o أو عن أمير المؤمنين عليّu فإن جميع المسلمين سيقبلون به ولن نجد في عالَم الإسلام من يخالفه. لكن القضية كلها هي: أن الحديث –خلافاً للقرآن الكريم- لم يُحفَظ من التحريف والوضع والاختلاط والاشتباه، ولذلك يجب على المسلم أن يحتاط كل الاحتياط ويُعمل الدقة الكاملة عند أخذه بالحديث. وقد كتب السيد «بهبودي» في هذا الموضوع مُقدِّمةً مفيدةً جداً على الطبعة الأولى لكتابه "صحيح الكافي" وليس من الميسور نقلها بتمامها هنا لكني سأنقل منها بعض الفقرات المُفيدة وأُوصي القراء الأعزاء بقراءة تلك المُقدِّمة كاملةً:

قال الأستاذ البهبودي:

"فكما نرى في تاريخ علم الحديث، وندرسها في رجال السنة والشيعة، إن الزنادقة والغلاة لم يألوا جهداً في إطفاء نور الإسلام وإفساد الشريعة والأحكام وإيقاع الشك في القلوب والتلاعب بالحقائق الدينية ومعارفها، وترويج الخرافات والتُّرَّهات والبِدع وإيجاد الفُرقة والاختلاف([8])....

فطوراً يسألون عن نزول القرآن وجمعه وترتيبه. فأوردوا أثناء ذلك شُبهة التحريف. وزوَّروا في بيان ذلك أحاديث مزعومة من طريق السنَّة والشيعة ليُوهموا أن مسألة التحريف مُتفقٌ عليها عند جميع الفرق!!

وجاؤوا من ناحية أخرى فأخذوا في تحريف القرآن تفسيراً وتأويلاً. فاختلقوا قصصاً خرافية ولفّقوا تأويلات جزافية، ثم اجتهدوا في نشر معارف اليهود وسفاسفهم في جنب القرآن ليُمَوِّهوا على الناس حقائقه العلمية التاريخية. وليُطفئوا نور هدايته في نشر المعارف الأساسية.

وتحقيقاً لأهدافهم السياسية وتأييداً لمكائدهم المدسوسة اختلقوا أحاديث مُزَوَّرة على لسان الصادع بالحق تتوعد المسلمين إن تفكروا بأنفسهم في آيات الذكر الحكيم وتفسيره وكشف النقاب عن وجه معارفه وأحكامه وخططه الاجتماعية وفي جنبها أحاديث أخرى تُرغِّب الناس في تلاوة الآيات والسور وتجويدها وتكرارها ليلاً ونهاراً ليشتغل الشائقون بتلاوة القرآن وتحسين الصوت عند تلاوته، عن درايته وتدبُّر آياته وفهم معانيه.

وهكذا نراهم قد اختلقوا معجزات خرافية تافهة مُستبشعة فنشروها على لسان القصاصين ومشايخ الحديث المُغفَّلين ليبتهج المسلمون بتردادها ونقلها وسماعها، كل ذلك تنفيراً لطباع المُتفكِّرين ودحضاً لبيِّنات القرآن ومعجزته الخالدة التي طالما أخذت بأسماع السامعين.

وأخرى لفَّقوا أساطير مزعومة وأحاديث مُزوَّرة تُرغِّب الناس في الزهد والاعتزال وأدرجوا فيها سفاسف التصوف والعرفان ليشتغل الناس بالتفكُّر في ذواتهم عن التشاغل بأعدائهم.... .

وهكذا ابتدعوا عبادات وصلوات مُخترعة واصطنعوا أدعية جميلة عرفانية وغير عرفانية بشَّروا عُبَّادها وقُرَّاءها بالثوابات الجُزافية والفوز بنعيم الآخرة، فرغب فيها كثيرٌ من العُبَّاد المُغفَّلين لا يفترون عن العبادة وقراءة الأدعية ليلاً ونهاراً، وعدلوا عن السنَّة النبوية العادلة فتشاغلوا بها عن مغزى العبادة والدعاء يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً!......

ولما رأت الغلاة والزنادقة أن طُلَّاب العلوم وروَّاد الحديث يتحرَّجون عن الأخذ والسماع حتى عن ضِعاف المشايخ المطعونين، جاؤوا بأخبث المكائد واختلقوا أحاديث يروونها عن لسان الصادع بالحق:«إن عهدة الكذب في الرواية إنما هو على من بدأه لا على الناقلين!!»، ولما رأوا أن عُبَّاد الليل والنهار قد رجعوا إلى السنَّة العادلة ورفضوا العبادات والأدعية المُخترعة، زعموا لهم: «مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَه رَجَاءَ ذَلِكَ الثَّوَابِ، أُوتِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَه!!‏»، فتمّ بهذه الأكاذيب المُخترعة مكائدهم، واغترَّ بها جماعة من العلماء والمُحدِّثين بل عامَّتهم. وكلما قام النُّقاد والمُحقِّقون لردِّ هذه الدعاية وكشف هذه الأزمة الضالة لم ينجح كفاحهم وقيامهم في وجه المُبطلين وشاعت أُسطورات الزنادقة وتُرَّهات الغلاة شيئاً فشيئاً في جميع المعارف وشتَّى مسائل الدين القويم. وظهر الاختلاط والاختلاف في كل باب من أبواب الشرع العظيم.....

وقام زعيم الشيعة في وقته أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله الغضائري (المتوفى 411 هـ. ق.) فخطَّ لهذا الكفاح المُقدَّس خطّةً فنيَّةً قدَّمها أمام تلامذته بأن يتصفَّحوا أصول الأصحاب ومؤلفاتهم وَيقارنوا بين نسخها المختلفة المنتشرة في الأقطار حتى يتبيَّن لهم النسخ السليمة ورواتها الأثبات، عن النسخ المزوَّرة المدسوس فيها برواتها المغفلين الضعفاء. فابتعث لأول مرَّة ابنه أبو الحسين أحمد المعروف بابن الغضائري فسلك هذا المسلك بصورة تامة فنية، وكتب فهرساً شملاً لأصول أصحابنا ومؤلفاتهم. فرَّق بين الصحيح والسقيم من نسخها وعرَّف الضعفاء المغفَّلين من رواتها.

ولعمري – لقد كان هذا الفهرس المبارك على ما وصفوه كافياً للأزمة شافياً للعلَّة، يستأصل الترَّهات والأباطيل المزعومة من شأفتها ويزيل البدع والاختلاف من أساسها، إلا أن عوام المحدِّثين وشيوخ الرواة الحاملين لتلك البِدع والترَّهات، قاموا في وجه الرجل – وهو كل الرجل – بأنك قد خالفت السلف الصالح وجئت بخطة زيَّفتَ بها مواريث أهل البيت. ومن الأسف أنهم أثاروا الفتنة عليهم حتى أماتوه بِغُصَّته وأضاعوا نُسخ كتابه، بعد ذلك محوا ذكره وأثره عن المعاجم كأن لم يكن شيئاً مذكوراً. "([9]).  (محمد باقر البهبودي، صحيح الكافي، الطبعة الأولى، الصفحة «و» فما بعد).

وقبل عدة سنوات([10]) من تأليف كتاب "صحيح الكافي"، ذَكَرَ أخونا الفاضل والمجاهد جناب الأستاذ «قلمداران» في كتابه "ارمغان آسمان" (أي هدية السماء)، أموراً من المُفيد جداً أن ننقل بعضها هنا (بشيء من التصرف اليسير):

1

".......... إن آفة الكذب التي تذهب بالحقيقة وتُدمِّرها، وآفة الوضع، ومطامع أصحاب المآرب والمصالح ومرضى القلوب، وصلت إلى باب بيت أهل بيت العصمة والطهارة، حتى أن «المغيرة بن سعيد» وحده، وهو أحد الرواة الكَذبة الذين كان لهم صلة ضعيفة بحضرة باقر العلوم u ادَّعى أنه وضع أكثر من ثلاثين ألف حديثٍ مكذوب ودسَّها ضمن أحاديث ذلك الإمام الجليل، وكذلك «محمد بن أبي الخطاب» وَ«بنان» وَ«عَمْرو النبطي» وأمثالهم افتروا أكاذيب ونسبوها إلى حضرة الصادق u بيَّضوا بها وجه أبي هريرة! إلى حدِّ أنهم صوَّروا صادق آل محمد بصورة رجلٍ ضعيف الحديث!!([11]).

قال «أبو عمرو الكشي» في [كتاب] رجاله:

"قال يحيى بن عبد الحميد الحماني، في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين (ع)، قلت لشريك: إن أقواماً يزعمون أن جعفر بن محمد ضعيفٌ في الحديث!!

فقال: أُخْبِرُكَ القصةَ: كان جعفرُ بنُ محمَّدٍ رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً، فاكتنفه قومٌ جُهَّالٌ يَدخُلون عليه ويَخْرُجُون من عنده ويقولون حدثنا جعفرُ بنُ محمَّدٍ، ويُحّدِّثُون بأحاديث كلها منكرات كذب موضوعة على جعفر، يستأكلون الناس بذلك وَيأخذون منهم الدراهم، فكانوا يأتون من ذلك بكل منكر، فَسَمِعَتْ العوامُّ بذلك منهم فمنهم من هلك ومنهم من أنكر.

وهؤلاء [الوضاعون الذين شوَّهوا سمعة الإمام الصادق] مثل المُفَضَّل بن عُمَر وبيان وعَمْرو النبطي‏ وغيرهم، ذكروا أن جعفراً حدَّثَهُم أن معرفة الإمام تكفي من الصوم والصلاة، وحدَّثهم عن أبيه عن جده وأنه حدَّثهم قبل القيامة، وَأن علياً (ع) في السحاب يطير مع الريح، وَأنه كان يتكلم بعد الموت، وَأنه كان يتحرك على المغتسل، وَأن إله السماء وَإله الأرض الإمام، فجعلوا لِـلَّهِ شريكاً، جُهَّالٌ ضُلَّالٌ، واللهِ ما قال جعفر شيئاً من هذا قطّ، كان جعفر أتقى لِـلَّهِ وأورع من ذلك، فسمع الناس ذلك، فضعَّفوه، وَلو رأيتَ جعفراً لعلمتَ أنه واحد الناس."([12]). انتهى.

إن الرُّواة الكَذبة الذين كانوا يضعون الأخبار الكاذبة وينسبونها إلى الأئمة عليهم السلام كثيرون، والتحقيق في أحوالهم يحتاج إلى الرجوع إلى كتب علم الرجال. فمثلاً أحد أولئك الرواة «بشار الشعيري» الذي قال عنه الإمام الصادق: «والله لأسألن عما قال فيَّ هذا الكذَّاب وادعائه عليَّ، يا ويله ما له؟؟! أرعبه الله! فلقد أمن على فراشه وأفزعني وأقلقني عن رقادي، وتدرون أني لم أقل ذلك، أقول ذلك لأستقر في قبري؟!».

كان بعض أولئك الأشخاص الدجَّالين لا يمتنع عن القيام بأي عمل مخادع وماكر لتحقيق مآربه السيئة فمثلاً: قام «محمد بن بشر» بنحت تمثالٍ لحضرة الإمام موسى بن جعفر u وطلاه بالدهان ووضعه في خزانة غرفته وكان يأخذ الناس إلى غرفته ويختلي مع ذلك التمثال وبتلك الحيلة كان يُصوِّر نفسه للآخرين وكأنه مُرسلٌ مِنْ قِبَل ذلك الإمام وداعيةٌ من دعاته!!

وَكَتَبَ «أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى» إلى حضرة الإمام الحسن العسكري u فِي قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ وَيَقْرَءُونَ أَحَادِيثَ وَيَنْسُبُونَهَا إِلَيْكَ وَإِلَى آبَائِكَ فِيهَا مَا تَشْمَئِزُّ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَلَا يَجُوزُ لَنَا رَدُّهَا إِذْ كَانُوا يَرْوُونَهَا عَنْ آبَائِكَ وَلَا قَبُولُهَا لِمَا فِيهَا؟!......... فَكَتَبَ u: لَيْسَ هَذَا دِينَنَا فَاعْتَزِلْهُ"([13]).

تلك كانت نماذج من أحوال الرواة الكَذبة الذين كانوا في زمن النبيّ o نفسه وفي زمن الأئمة الطاهرين.  ورغم أنه كان من الممكن للناس في ذلك الزمن أن يستفسروا من النبيّ o أو الإمام ويسألوهم عن صدق ما يُروى من الأحاديث أو كذبه، مع هذا كان الكَذبة وأرباب المآرب والمصالح يُواصلون بكل وقاحةٍ وانعدامٍ للحياء نقل الأحاديث الكاذبة حتى في حضرة أولئك الأئمة الكرام أنفسهم، أي أنهم لم يتورعوا عن نقل الحديث الكاذب على لسان الإمام في حضوره (!)، كما روى «ميمون بن عبد الله» -كنموذج علَى ذلك - قصةً أوردها «الكشي» في رجاله، وفيها أن رجلاً من أهل البصرة أخذ يروي في حضور الإمام الصادق نفسه عشرات الأحاديث الكاذبة والموضوعة عن «سُفْيان الثَّوْرِيّ» وغيره عن الإمامين الباقر والصادق!! فَقَالَ لَهُ حضرة الصادق u: مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. قَالَ: هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْهُ وَتَذْكُرُ اسْمَهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ تَعْرِفُهُ؟؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْهُ شَيْئاً قَطُّ؟؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عِنْدَكَ حَقٌّ؟؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَتَى سَمِعْتَهَا؟؟ قَالَ: لَا أَحْفَظُ، إِلَّا أَنَّهَا أَحَادِيثُ أَهْلِ مِصْرِنَا مُنْذُ دَهْرِنَا لَا يَمْتَرُونَ فِيهَا. قَالَ الإمام الصادق لَهُ: لَوْ رَأَيْتَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْهُ فَقَالَ لَكَ: هَذِهِ الَّتِي تَرْوِيهَا عَنِّي كَذِبٌ وَقَالَ: لَا أَعْرِفُهَا وَلَمْ أُحَدِّثْ بِهَا هَلْ كُنْتَ تُصَدِّقُهُ؟ قَالَ: لَا!! قَالَ: لِمَ؟؟ قَالَ: لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى قَوْلِهِ رِجَالٌ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمْ عَلَى عُنُقِ رَجُلٍ [أي قتل رجل قصاصاً] لَجَازَ.......   ولو صدَّقتُ «جعفر بن محمَّد» في تكذيب هذه الأحاديث كنتُ مكذِّباً لأولئك الرجالّ!". ([14]).

هذا هو وضع الأحاديث في زمن الأئمة الطاهرين، فما بالك في الأحاديث في عصر الغيبة حيث لم يبقَ أحدٌ من مصابيح الهداية أولئك، وخلا الجو للشياطين الوضَّاعين وأئمة الضلال الذين لم يجدوا طريقةً أفضل من وضع الأحاديث لإضلال المسلمين ومعاداة الدين المبين، وأحياناً يقوم الأصدقاء الجاهلون بصداقتهم الحمقاء بأعمال لم يقم بها حتى الأعداء!

قال العلامة الحلي في كتابه «نهاية الأصول»: إن الملاحدة وضعوا أخباراً عن عمدٍ ودسُّوها في كتب الحديث كي يُشوِّهوا صورة الدين ويجعلوه باطلاً في أنظار الناس. ولما سارت الأمور على هذا النحو أصبح كل صاحب غرَض أو منافق مريض القلب يقوم بوضع الحديث، لاسيما الأعداء الأذكياء والمُحتالون الذين كانوا يرون سرعة انتشار الإسلام واستيلائه على جميع العالَم المُتحضِّر آنذاك، فكانوا يتشبثون بكل وسيلةٍ للنجاة من ذلك الوضع فلم يجدوا عملاً أسهل وأكثر تأثيراً من وضع الأحاديث، لأنه ليس من العسير أن توضع قبل جملة قال رسول الله o وقال الصادق، جملة: فلانٌ عن فلان، وهم لن يواجهوا في ذلك الحصنَ المنيعَ الذي تتمتع به آيات القرآن والتي بينها الله تعالى في قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة/24]، وقوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ [الإسراء/88]، بل كلام الآدمي ووضعه سهلٌ جداً، ومن حيث التأثير فإن كل كلام يتخذ الصبغة والصفة الدينية يكون مؤثراً، فما بالك بالأمر والنهي في الأمور المهمة؟! وبما أنهم لم يكونوا يستطيعون أن يقوموا بمثل هذا العمل بوجههم العدائيّ السافر، كانوا يضطرون إلى التظاهر بصورة الصديق أي المسلم وأن يجعلوا أنفسهم في عداد العلماء وزمرة المُحدِّثين، ثم يُوجِّهون عندئذٍ ضرباتهم القاتلة إلى جسد الإسلام، مع أنه طبقاً للتعليمات المتواترة المروية عن الرسول الأكرم  o والأئمة الطاهرين –سلام الله عليهم أجمعين- لابدّ من عرض الأحاديث والأخبار الواردة عنهم على كتاب الله([15])، لأن القرآن المجيد هو أفضل معيار لمعرفة صدق الأخبار أو كذبها، إلا أنه للأسف لم يقم أحدٌ حتى الآن بمثل هذا العمل [أي عرض الأخبار على كتاب الله]، ونحن لم نُصادف حتى الآن كتاباً ألفه أحد علماء الإسلام وقام فيه بمقارنة ومطابقة الأحاديث على القرآن للتعرَّف على صحيح الحديث وسقيمه بهذا المعيار. نعم، العمل الوحيد الذي تمَّ القيام به لتشخيص الأحاديث الصحيحة والسقيمة هو وضع علم الدراية وإحداث علم الرجال لكشف حال الحديث من خلال معرفة وضع رواته وأحوال ناقليه، فمثلاً إذا كان الراوي كذا وكذا اعتُبر الحديث صحيحاً، وإذا كان الراوي كذا وكذا اعتُبر مُوَثَّقاً وإلا اعتُبر ضعيفاً أو مُرْسَلاً أو مجهولاً.

وينبغي أن نعلم أن علم الدراية أُسِّس في القرن الهجري الخامس تقريباً، وأول تأليف ظهر في هذا المجال، طبقاً لما ذكره المرحوم «السيد حسن الصدر» في كتابه «الشيعة وفنون الإسلام» هو الكتاب الذي ألفه أبو عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيشابوري (المتوفى سنة 405 هـ) في خمسة مجلدات وسمَّاه «معرفة علم الحديث». هذا ورغم أن هذا العمل لم يكن باستطاعته أن يُنقذ المُحدِّثين بشكل كامل ويحفظهم من الوقوع في هاوية نقل الأكاذيب والمُفتريات، لأنه رُبَّ شخصٍ يتمتَّع - حسب الظاهر- بصفات راوي الحديث الصحيح، ومع ذلك يكون الخبر المنقول عنه مخالفاً لكتاب الله، كما نجد هذا العيب في بعض الأحاديث الصحيحة، ثم إن الذي يريد وضع حديثٍ يُمكنه أيضاً أن يضع سنده ويجعله مؤلفاً من سلسلة من الرجال ذوي السمعة الحسنة لأنه لم تبقَ رسالةٌ أو كتابٌ لأولئك الرواة كي يُمكن مطابقة الحديث معها عليها، حتى يتضح كذب الحديث المُفترى. كما أن كتب الحديث ليست معدودةً أو محدودةً حتى يكون من غير الممكن الخروج من حدودها، بل إننا لنرى أنه في كل يوم يظهر كتابُ حديثٍ جديد لم يكن لنا علمٌ به من قبل، ونسمع أحاديث لم نسمع بها قبل!

مع ذلك ورغم قولنا: إن علم الدراية والرجال لا يُمكنه أن يحفظنا بشكل كامل من شرِّ الوضَّاعين ومُفتري الأحاديث الكذبة، لكن نفعه رغم ذلك كبيرٌ ولا يُمكن إنكار فوائده، بيدَ أنه لسوء الحظ لم يقم أحدٌ حتى الآن بعملٍ كاملٍ مُتكامل لتمحيص الأحاديث حتى من هذا الطريق (أي طريق علم الرجال) لتشخيص الأخبار الصحيحة وتمييزها عن السقيمة، وكل ما نعلمه أن العلامة المجلسيّ -أعلى اللهُ مقامه- قام بنقد كتاب الكافي الشريف المُشتمل على حوالي ستة عشر ألف حديث استناداً إلى علم الدراية والرجال وأسقط تسعة أعشار أحاديثه عن الصحة، واعتبر أقل من عُشر أحاديثه صحيحاً.

هذا في حين أننا نجد أن متون حتى بعض تلك الأحاديث صحيحة، تُخالف آيات القرآن، وعلى العكس نجد أن بين تلك الأحاديث [التي اعتبرها المجلسي] ضعيفةً وحسنةً ومُرسلةً وغير ذلك، توجد أحاديث يتطابق متنها بشكل كامل مع آيات القرآن.....

لذا فنحن نعتقد أن أفضل معيار ومحك لتشخيص الحديث الصحيح من السقيم هو الميزان الذي أعطانا رسولُ الله o نفسه إياه وأعطاه إيانا أيضاً الأئمة المعصومون عليهم السلام، ألا وهو العرض على كتاب الله، بشرط أن لا نعتبر كتاب الله نفسه محتاجاً للتفسير بواسطة الأحاديث! كي لا نقع بفساد الدَّوْر الباطل، ولا نُوجّه تهمة النقص وعدم البيان الواضح إلى كتاب الله ونقول إنه يحتاج إلى بيان معانيه وتفسيره.

وبهذا المعيار نقبل كل حديثٍ يُوافق كتاب الله حتى ولو كان رواته ممن يخالفوننا في المذهب، إذْ ما البعيد في أن ينقل شخصٌ مُخالفٌ لمذهبنا، بل حتى شخصٌ كافرٌ ومحرومٌ من نعمة الإسلام كلاماً صادقاً وصحيحاً عن النبيّ o أو الأئمة؟

مثلاً روى «أبو هريرة» -المطعون به في مذهب الشيعة- حديثاً في موضوع الربا عن رسول الله o قال فيه: «ليَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا، فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ!»([16]).

ونحن اليوم عندما نرى رأي العين المُعاملات الربوية والمؤسسات المصرفية، نوقن أن هذا الحديث صحيح، وهو من آثار صدق النُّبُوَّة ومن معجزات النبيّ o. أما كون راويه، طبقاً لعلم الدراية وعلم الرجال شخصٌ لا يُمكن اعتبار حديثه صحيحاً، فهذا لا يضرّ. ومثالٌ آخر أن الطبرسيّ روى في تفسيره «مجمع البيان» وكذلك البحراني في تفسيره «البرهان» ذيل الآية: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المائدة/33] روايةً عن «جميل بن درّاج» -الذي كان من ثقاة أصحاب الأئمة وطبقاً لكتب الرجال مثل «فهرست» الشيخ الطوسيّ، و«خلاصة» العلامة الحلي، ورجال النجاشي كان جميل بن درَّاج مِمَّن: "أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحُّ منه" أي أن رواياته كلها صحيحةً حسب علم الدراية- حديثاً عن حضرة الصادق u يرويه عن أبيه ويقول: «أُعطي سُليمان بن داود مُلْكَ مشارق الأرض ومغاربها فملك سبعمائة سنة وسبعة أشهر، مَلَكَ أهل الدنيا كلهم من الجِنِّ والإنس والشياطين و............».  وكلُّ مَنْ له أدنى اطِّلاع على التاريخ يعلم أن هذا الحديث -رغم صحة سنده التامة- كذبٌ!!

إذن فميزان رجال السند ليس ميزاناً صحيحاً ومُتَيَقَّناً يُمكن الوثوق به تماماً والاعتماد عليه..... بل الميزان الصحيح هو عرض الأحاديث على القرآن حتى لو كان رُواة الحديث فسقةً فجرةً، ومِنَ القَدَر أن عقيدتنا هذه هي بذاتها مضمون حديث شريف رواه «محمد بن مسلم» عن حضرة الصادق أنه قال: «يَا مُحَمَّدُ! مَا جَاءَكَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَخُذْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ فِي رِوَايَةٍ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَا تَأْخُذْ بِهِ»([17]).

فهذه الرواية تنضح صدقاً وتُفيد أن معيار قبول الرواية هو مُوافقتها للقرآن أيَّاً كان راويها حتى لو كان فاجراً، ومعيار رفض الرواية مُخالفتها للقرآن أيَّاً كان راويها حتى لو كان معروفاً بالصدق.

إذن ميزان صحة الأحاديث وسُقمها، بمُوجب العقل والشرع والأحاديث المُتواترة، هو العرض على كتاب الله. وفيما يلي بعض ما رُويَ من الأحاديث المُتعلِّقة بلزوم عرض الأحاديث على كتاب الله:

1- جاء في كتاب «الكافي» الشريف، [بَابُ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وَشَوَاهِدِ الْكِتَاب، 1/69، الحديث 1) عن حضرة الإمام الصادق u أنه قالَ: قَالَ رَسُولُ الله o: "إنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حقيقةً، وعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوْرَاً، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوا بِهِ، ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَدَعُوهُ.".

2- وَروى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ «تفسير العيَّاشيّ»، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ الإمامِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ u قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ o فِي خُطْبَةٍ بِمِنًى أَوْ بِمَكَّةَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَأَنَا قُلْتُهُ، وَمَا جَاءَكُمْ عَنِّي لَا يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَلَمْ أَقُلْهُ"([18]).

3- وَروى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ «تفسير العيَّاشيّ»، عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ الصادق u عَنْ آبائه الكرام عَنْ أَمير المؤمنين عَلِيٍّ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ- قَالَ: "الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَةِ، وَتَرْكُكَ حَدِيثاً لَمْ تُرْوَهُ خَيْرٌ مِنْ رِوَايَتِكَ حَدِيثاً لَمْ تُحْصِهِ. إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوا بِهِ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَدَعُوهُ"([19]).

4- وعَنْ كُلَيْبٍ الأسديِّ أنه سمع حضرة الإمام جَعْفَرٍ الصادق u يقول: "مَا أَتَاكُمْ عَنَّا مِنْ حَدِيثٍ لَا يُصَدِّقُهُ كِتَابُ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ"([20]).

5- وَروى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ «تفسير العيَّاشيّ» عن سدير قال: كان حضرة الإمام محمد الباقر وحضرة الإمام جعفر الصادق -عليهما السلام- يقولان: "لا يُصَدَّقُ علينا إلا بما يوافق كتاب الله وسنَّة نبيه o"([21]).

6- وروى الشيخ يوسف البحراني في كتابه الحدائق الناضرة عن حضرة الإمام جعفر الصادق u أنه قال: "لَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا حَدِيثَنَا إِلَّا مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّة......"([22]).

7- وفي الكتاب الأخير ذاته عن حضرة الرضا u وهو عن حضرة الصادق u قال: "فَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا خِلَافَ الْقُرْآنِ [فَإِنَّا إِنْ تَحَدَّثْنَا حَدَّثْنَا بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ، إِنَّا عَنِ اللهِ وَعَنْ رَسُولِهِ نُحَدِّث]‏"([23]).

ولا أظنُّ شخصاً يملك ذرَّة وجدان وإنصاف يتردد أو يشك بعد هذا البيان في جواز التصديق بالأحاديث التي تتضمن متونها أموراً تُخالف القرآن أو لا تتفق معه وفي إمكانية الوثوق بها، حتى ولو كان رجال سند تلك الأحاديث، طبقاً لكتب الرجال والدراية، رواةً مُؤمنين وإماميين وكانوا فلاناً أو فلاناً، أي حتى لو كانت تلك الأحاديث حسب ميزان الدراية، أحاديثَ صحيحةً! "([24]).  (انتهى الاقتباس من كلام الأستاذ قلمداران).

2هذا، ولما أشار هذا الكاتب الكريم فيما اقتبسناه من كلامه بشأن وضع الحديث إلى أن بعض الأصدقاء الجاهلين أيضاً يقومون أحياناً بصداقتهم الحمقاء بأعمال لم يقم بها الأعداء، أرى من المناسب أن أذكر أمراً كتبه الشهيد الثاني في كتابه «البداية في علم الدراية» ونقل ترجمته إلى الفارسية جناب الأستاذ «عبد الوهاب فريد [التنكابني]» في كتابه «الإسلام والرجعة» (ص99 - 100) حيث قال:

"وأعظمهم (أي واضعي الأحاديث) ضرراً، مَنْ انتسب إلى الزهد والصلاح بغير علم، فاحتسب وضعه حسبةً لِـلَّهِ وتقرُّباً إليه ليجذب بها قلوب الناس إلى الله تعالى بالترغيب والترهيب، فقبل الناس موضوعاتهم، ثقة منهم بهم، وركونا إليهم، لظهور حالهم لصلاح والزهد.

ويظهر لك ذلك من أحوال الأخبار التي وضعها هؤلاء في المواعظ والزهد وضمّنوها أخباراً عنهم، ونسبوا إليهم أفعالاً وأحوالاً خارقة للعادة وكراماتٍ لم يتَّفق مثلها لأولى العزم، بحيث يقطع العقل بكونها موضوعة وإن كانت كرامات الأولياء ممكنة في نفسها، ومن ذلك ما رُوِىَ عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم المروزي أنه قيل له: مِنْ أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبةً!.

وكان يقال لأبي عصمة، هذا، الجامع، فقال أبو حاتم بن حبان: «جمع كل شيء إلا الصدق!».

وروى ابن حبان عن أبي مهدي قال: قلت لميسرة بن عبد ربه من أين جئت بهذه الأحاديث، من قرأ كذا فله كذا؟ فقال: وضعتها لأرغِّبَ الناس فيها!([25])، وهكذا قيل في حديث «أبي الطويل» في فضائل سور القرآن، سورة سورة، فروى عن المؤمل، عن ابن إسماعيل قال: حدّثني شيخ به! فقلت للشيخ: من حدّثك؟ فقال: حدّثني رجل بالمدائن وهو حيّ. فصرت إليه فقلت: من حدّثك؟ فقال: حدّثني شيخ بواسط وهو حيّ. فصرت إليه فقال: حدّثني شيخ بالبصرة، فصرت إليه فقال: حدّثني شيخ بعبادان! فصرت إليه فأخذ بيدي فأدخلني فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ فقال: هذا الشيخ حدثني. فقلت: يا شيخ من حدثك؟ فقال: لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن، فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن!

وكل من أودع هذه الأحاديث تفسيرَه كالواحدي والثعلبي والزمخشري، فقد أخطأ في ذلك، ولعلّهم لم يطَّلعوا على وضعه، مع أن جماعة من العلماء قد نبَّهوا عليه..."([26]).

ويقول الشهيد الثاني في خاتمة كلامه حول هذا الموضوع:

"والمرويُّ تارةً يخترعه الواضع، وتارةً يأخذ كلام غيره كبعض السلف الصالح، أو قدماء الحكماء، أو الإسرائيليات، أو يأخذ حديثاً ضعيف الإسناد فيركب له إسناداً صحيحاً ليروج.."([27]).

وذكر العلامة الشيخ «محمد تقي شوشتري» في كتابه المشهور «الأخبار الدخيلة» نقلاً عن كتب القدماء ومن جملتها كتاب «الكشي» مطالب مفيدة لا يخلو ذكرها هنا من فائدة، قال:

3"روى الكِشِّيُّ عن الإمام الصادق u أنه كان يَقُولُ: "كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى أَبِي، وَيَأْخُذُ كُتُبَ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ الْمُسْتَتِرُونَ بِأَصْحَابِ أَبِي يَأْخُذُونَ الْكُتُبَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي فَيَدْفَعُونَهَا إِلَى الْمُغِيرَةِ فَكَانَ يَدُسُّ فِيهَا الْكُفْرَ وَالزَّنْدَقَةَ وَيُسْنِدُهَا إِلَى أَبِي([28])، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَبُثُّوهَا فِي الشِّيعَةِ؛ فَكُلُّ مَا كَانَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي مِنَ الْغُلُوِّ فَذَاكَ مِمَّا دَسَّهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كُتُبِهِمْ.

كما أن جماعة من النواصب وسائر المُخالفين وضعوا أخباراً كاذبةً في فضائل الأئمة ومُعجزاتهم بهدف تخريب الدين، لأن الناس عندما يرون هذه الأخبار الباطلة لن يقبلوا حتى الأخبار الصحيحة حول الأئمة وسيردُّونها، وقد كان الإمام الباقر u يقول: "لقد رَوَوْا عَنَّا مَا لَمْ نَقُلْهُ وَلَمْ نَفْعَلْهُ لِيُبَغِّضُونَا إِلَى النَّاسِ([29])".....

وبسبب ما قلناه كان المُحقِّقون من السلف من أمثال يونس بن عبد الرحمن وأحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن الحسن بن الوليد يحتاطون جداً في الأخذ بالأخبار ولا يعملون  بكل حديثٍ. وكانوا يقولون ليونس مراراً: ما أكثر ما تُنكر روايات أصحابنا! فكان يُجيب: روى لي هشام بن الحكم أنه سمع حضرة الصادق u يقول: "لَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا حَدِيثَنَا إِلَّا مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ أَوْ تَجِدُونَ مَعَهُ شَاهِداً مِنْ أَحَادِيثِنَا الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ لَعَنَهُ اللهُ دَسَّ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي أَحَادِيثَ لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا أَبِي"([30]).

وقَالَ يُونُسُ: "وَافَيْتُ الْعِرَاقَ فَوَجَدْتُ بِهَا قِطْعَةً مِنْ أَصْحَابِ أَبِي جَعْفَرٍ u وَوَجَدْتُ أَصْحَابَ أَبِي عَبْدِ اللهِ u [جعفر الصادق] مُتَوَافِرِينَ فَسَمِعْتُ مِنْهُمْ وَأَخَذْتُ كُتُبَهُمْ فَعَرَضْتُهَا بَعْدُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا u فَأَنْكَرَ مِنْهَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي عَبْدِ اللهِ u، وَقَالَ لِي: إِنَّ أَبَا الْخَطَّابِ كَذَبَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ u لَعَنَ اللهُ أَبَا الْخَطَّابِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي الْخَطَّابِ يَدُسُّونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي عَبْدِ اللهِ u، فَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا خِلَافَ الْقُرْآنِ فَإِنَّا إِنْ تَحَدَّثْنَا [حَدَّثْنَا] حَدَّثْنَا بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ. إِنَّا عَنِ اللهِ وَعَنْ رَسُولِهِ نُحَدِّثُ وَلَا نَقُولُ قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَيَتَنَاقَضُ كَلَامُنَا. إِنَّ كَلَامَ آخِرِنَا مِثْلُ كَلَامِ أَوَّلِنَا وَكَلَامَ أَوَّلِنَا مِصْدَاقٌ لِكَلَامِ آخِرِنَا، وَإِذَا أَتَاكُمْ مَنْ يُحَدِّثُكُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَرُدُّوهُ عَلَيْهِ وَقُولُوا أَنْتَ أَعْلَمُ وَمَا جِئْتَ بِه‏([31])..."([32]). (انتهى النقل من كلام الشوشتري (التُّسْتَريّ) الذي نقله بدوره عن رجال الكشيّ).

وقال المُحقِّق والعالم المُعاصر هاشم معروف الحسني حول الحديث:

 "فقد جاء دور جماعة من المُتشيِّعين لأهل البيت عليهم السلام الذين ظلوا زمناً طويلاً يسمعون شتم عليّ على المنابر وفي المساجد والمجتمعات، ويرون الأحاديث المكذوبة على الرسولo في فضل الخلفاء والأُمويين تُفرض حتى على الصبيان الصغار وتُدخل في مناهج التعليم في الكتاتيب وفي الحلقات، هؤلاء عندما دبَّ الضعف في جسم تلك الدولة الجائرة، وظهر طلائع الحزب المُعارض ووجدوا بين أيدي الناس سيلاً من المرويات المكذوبة وبعضها كان يتناول علياً وبنيه بكل أنواع الإساءة – لم يتورعوا أن يضعوا بعض الأحاديث في الفضائل وانتقاص الخلفاء ونسبوها إلى الأئمة عليهم السلام في حين أنهم كانوا يُعارضون بحزم وإصرار كل من يُحاول أن يضعهم فوق مستوى الناس، أو ينتقص أحداً من الخلفاء وصحابة الرسولo الأبرار.

وجاء دور الفرق الشيعية في تلك الفترة من تاريخ المسلمين التي تعددت فيها الأحزاب وتضاربت فيها النزعات والاتجاهات حتى بين المُحدِّثين والفقهاء؛ هذه الفرق التي استعملت الحديث فيما استعملته من الوسائل لتأييد الأفكار التي تبنَّتْها وَنشطت في ترويجها والدعاية لها كالكيسانية وَالزيدية وَالفطحية وغيرها، وكان من أخطر الدخلاء على التشيع جماعة تظاهروا بالولاء لأهل البيت، وانْدَسُّوا بين الرواة وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) مدَّةً طويلةً من الزمن استطاعوا خلالها أن يتقربوا من الإمامين الباقر والصادق واطمأن إليهم جمع من الرواة فوضعوا مجموعة كبيرة من الأحاديث ودسُّوها بين أحاديث الأئمة وفي أصول كتب الحديث، كما تشير إلى ذلك بعض الروايات، وقد اشتهر من هؤلاء محمد بن مقلاص الأسدي الذي يكنِّيه الشهرستاني بأبي زينب، والمقريزي بابن أبي ثور، والمغيرة بن سعيد، ويزيع بن موسى الحائك، وبشار الشعيري، ومعمر بن خيثم، والسري وحمزة اليزيدي وصائد الهندي، وبيان سمعان التميمي، والحرث الشامي، وعبد الله بن الحرث وغير هؤلاء ممن لا يسعنا استقصاؤهم، وكان بشار الشعيري وحمزة اليزيدي ومعمر بن خيثم وبيان بن سمعان والمغيرة بن سعيد من دعاة الإلحاد والغلو، فلقد ادعى بشار بأن علياً هو الإله، وقال بالتناسخ، وجاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال لِمَرَزِام وكان جاراً لبشار، قال له: إذا قدمت الكوفة فقل له: يقول لك جعفر: يا فاسق يا كافر يا مشرك أنا بريء منك! قال مرزام: فلما قَدِمْتُ الكوفةَ بلَّغْتُهُ الرسالةَ، فقال بشار: وقد ذكرني سيدي؟ قال نعم ذكرك بهذا، فقال له جزاك الله خيراً. وأما معمر بن خثيم فقد أحلَّ جميع المحرمات، وأما حمزة فكان يدعي بأن أبا جعفر يأتيه بالوحي في كل ليلة، وأما بيان فلقد ادَّعى النبوة بعد أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، وأما المغيرة بن سعيد فلقد ادعى النبوة وكان أكثرهم أتباعاً لأنه كان يستعمل السحر والشعبذة والأساليب التي تضلل البسطاء المغفلين.

وجاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنه قال: "كان بيان يكذب على علي بن الحسين فأذاقه الله حر الحديد، وكان المغيرة يكذب على أبي جعفر الباقر، وكان محمد ابن فرات يكذب على أبي الحسن موسى بن جعفر، وكان أبو الخطاب يكذب على أبي عبد الله الصادق".

وجاء عن يحيى بن عبد الحميد الحماني: أن جعفر بن محمد (أي الإمام الصادق u) كان رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً فاكتنفه قومٌ جهال يدخلون عليه ويخرجون يقولون: حدَّثنا جعفر بن محمد، ويحدِّثون بأحاديث منكرة كلها كذب على الإمام جعفر بن محمد يستأكلون بها الناس، كالمفضَّل بن عمر وبيان وعمر النبطي وغيرهم من الوضَّاعين ونسبوا إليه أنه قال: إن معركة الإمام تكفي عن الصلاة والصيام، وأن علياً في السحاب يطير مع الريح، وأن اللهَ إله السماء والإمامَ إله الأرض، إلى غير ذلك من المقالات([33]).

وتؤكد المرويات الصحيحة عن الإمام الصادق u وغيره من الأئمة أن المغيرة بن سعيد وبياناً وصائد الهندي وعمر النبطي والمفضل وغيرهم من المنحرفين عن التشيع والمندسين في صفوف الشيعة وضعوا بين المرويات عن الأئمة عدداً كبيراً في مختلف المواضيع.

وجاء عن المغيرة أنه قال: وضعتُ في أخبار جعفر بن محمد اثني عشر ألف حديث!، وظلَّ هو وأتباعه زمناً طويلاً بين صفوف الشيعة يترددون معهم إلى مجلس الأئمة (عليهم السلام) ولم ينكشف حالهم إلا بعد أن امتلأت أصول كتب الحديث الأولى بمروياتهم كما تشير إلى ذلك رواية يحيى بن عبد الحميد السابقة.

وجاء في الكشي عن الإمام الصادق أنه قال: "كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى أَبِي، وَيَأْخُذُ كُتُبَ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ الْمُسْتَتِرُونَ بِأَصْحَابِ أَبِي يَأْخُذُونَ الْكُتُبَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي فَيَدْفَعُونَهَا إِلَى الْمُغِيرَةِ فَكَانَ يَدُسُّ فِيهَا الْكُفْرَ وَالزَّنْدَقَةَ وَيُسْنِدُهَا إِلَى أَبِي، ثُمَّ يَدْفَعُهَا إِلَى أَصْحَابِهِ فَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَبُثُّوهَا فِي الشِّيعَةِ"([34]).

وبلا شك كان هو وأتباعه ينسبون الرواية المدسوسة إلى الموثوقين من أصحاب الأئمة حتى لا ينكشفوا على واقعهم.

هذا بالإضافة إلى فريق آخر من الوضَّاعين كانوا يضعون الأحاديث التي تُنفِّر الناسَ منهم، كما يرشد إلى ذلك قول الإمام الباقر u: "لقد رَوَوْا عَنَّا مَا لَمْ نَقُلْهُ وَلَمْ نَفْعَلْهُ لِيُبَغِّضُونَا إِلَى النَّاسِ"([35])

وجاء في رواية الصدوق عن الرضا u عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ قَالَ: "قُلْتُ لِلرِّضَا u يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ! إِنَّ عِنْدَنَا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ u وَفَضْلِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ مُخَالِفِيكُمْ وَلَا نَعْرِفُ مِثْلَهَا عَنْكُمْ أَفَنَدِينُ بِهَا؟ فَقَالَ الإمام الرضا u: يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ إِنَّ مُخَالِفِينَا وَضَعُوا أَخْبَاراً فِي فَضَائِلِنَا وَجَعَلُوهَا عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا الْغُلُوُّ، وَثَانِيهَا التَّقْصِيرُ فِي أَمْرِنَا، وَثَالِثُهَا التَّصْرِيحُ بِمَثَالِبِ أَعْدَائِنَا، فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ الْغُلُوَّ فِينَا كَفَّرُوا شِيعَتَنَا وَنَسَبُوهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِرُبُوبِيَّتِنَا، وَإِذَا سَمِعُوا التَّقْصِيرَ اعْتَقَدُوهُ فِينَا، وَإِذَا سَمِعُوا مَثَالِبَ أَعْدَائِنَا بِأَسْمَائِهِمْ ثَلَبُونَا بِأَسْمَائِنَا. وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.... [إلى أن قال:] يَا ابْنَ أَبِي مَحْمُودٍ احْفَظْ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ فَقَدْ جَمَعْتُ لَكَ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة"([36])....

ومهما كان الحال فرواية الصدوق عن الرضا u تُعَبِّر تعبيراً صادقاً عن واقع أكثر الموضوعات في الفضائل والمثالب؛ لأن أعداء أهل البيت قد استعملوا جميع الأساليب لإيجاد فجوة بينهم وبين الناس، فسلكوا هذا الطريق بعد أن وجدوا أن حرب الإبادة تدرُّ عليهم العطف وتقرِّبهم من الناس ونجحوا في هذا الأسلوب إلى حدٍّ ما، فدسُّوا بين مروياتهم مئات الأحاديث في شتم الخلفاء والصحابة، وفي إعطاء صفة الخالق المدبِّر والاتّكال على ولاية عليٍّ وبنيه، وظلت آثار هذه الموضوعات تعصف في الأذهان وتعبث في الأفكار والعقول حتى يومنا هذا، بالرغم من تلك الجهود المخلصة التي توالت للكشف عن تلك الموضوعات وتصفية الحديث والعقيدة مما علق بهما من آثار تلك الموضوعات ومفاسدها"([37]).

ويقول في موضع آخر من كتابه:

"والذي لا يجوز التنكر له أن مُحدِّثي السنَّة من أواسط القرن الخامس كانوا أكثر وعياً وإدراكاً للأخطار التي أحاطت بالحديث الشريف من مُحدِّثي الشيعة، فألفوا بالإضافة إلى كتب الرواية وأحوال الرجال عشرات الكتب خلال قرنين من الزمن حول الموضوعات وبعضها يحمل هذا الاسم بالذات، ومن بين هؤلاء عبد الرحمن بن الجوزي العالم الشهير الذي ألف كتابه «الموضوعات» في ثلاثة أجزاء خلال القرن السادس الهجري وتوالت بعده المؤلفات في هذا الموضوع فألف السيوطي والفتني وغيرهما بنفس التخطيط والأسلوب وأصبحت كتبهم من أجلِّ المصادر وأكثرها فائدةً لمن يريد أن يكتب في هذه المواضيع.

أما الشيعة فقد تجاهلوا هذا الموضوع وكأنه لا يعنيهم من أمره شيءٌ، في حين أن الموضوعات بين مرويَّاتهم لا تقلّ في عددها وأخطارها عن الموضوعات السنّية، وكل ما في الأمر لقد عالجوا مشاكل الحديث عن طريق مؤلفاتهم في علمي الرجال والدراية الذين يبحثان عن أحوال الراوي والرواية ويضعان الخطوط العامة لما يصح الاعتماد عليه وما لا يصح، ولكنهم لم يُحاولوا خلال هذه القرون الطوال أن يضعوا ولو كتاباً واحداً يشتمل ولو على نماذج من الموضوعات في مختلف المواضيع، في حين أنهم لا يزالون يُعانون مما تركته تلك الموضوعات من آثار سيئة على المذهب الشيعي البعيد عن الشذوذ والأساطير والخرافات التي أدخلها المُرتزقة من أتباع الحُكام والقصاصون وقادة الفرق والأحزاب.

وظهر إلى جانب هؤلاء وضَّاعون من طرازٍ آخر كانوا يضعون الحديث بلسان أئمة الشيعة بدافع الغيرة على الإسلام في الترغيب والترهيب، ويدعمون مقالاتهم وموضوعاتهم بمرويات مفادها أن النبيّ والإمام عليهم السلام قالا: "مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَهُ ابْتِغَاءَ ذَلكَ الثَّوابَ أُوتِيَهُ وإنْ لَمْ يَكُن رَسُولُ اللهِ o قَالَهُ"، يفعلون ذلك تقرباً إليه ويحسبون أنهم يُحسنون صنعاً! وانتشر هذا اللون من الموضوعات بين السنَّة والشيعة، ووجد القصاصون من خلاله مُبرِّراً لأساطيرهم التي امتلأت بها المجاميع السنية والشيعية وكان من نتيجة ذلك أن تاه الكثير من الصحيح بين المكذوب، ووجد الحاقدون على الإسلام والتشيع مجالاً واسعاً للتشويش والتشنيع أمضى من أي سلاح آخر وأشدّ فتكاً من أسلحة المُشْرِكين وأعداء أهل البيت..... "([38]).  

(انتهى النقل من كلام الأستاذ هاشم معروف الحسني).

وإحدى العلل الأخرى لهذا الوضع المُضطرب وغير المُنتظم للحديث هو أن العلماء المُتأخِّرين تعصَّبوا لما وصلهم من الحديث ولم يقوموا بالبحث والتحقيق العلمي البعيد عن الأحكام المُسبقة في الموروث الحديثي، وفي الواقع لقد قلَّدوا الرواة السابقين الذين كان أكثرُهم رجالاً أُميِّين وخرافيِّين. وينبغي الانتباه إلى أنه في القرنين الثاني والثالث -وأكثر الأخبار الموضوعة وُضعت في هذين القرنين- لم تكن هناك حوزةٌ علميةٌ [أي مركز للدراسات الدينية والكليات الشرعية] تحقيقيَّةٌ، أو باصطلاح اليوم لم تكن هناك جامعاتٌ، كي يقوم العلماء فيها بتمحيص تلك الأخبار وعرضها على القرآن، بل كان كل من لديه نصيبٌ ولو قليلٌ من العلم يستطيع الكتابة ويأتي بدفتر ويُسجِّل فيه كلام كل شخصٍ موثوقٍ أو ساقطٍ غير موثوق، دون أن يكون له علمٌ بالعقائد الحقيقية لأولئك الذين يقوم بتدوين رواياتهم، وأهدافهم الحقيقية، أو يكون مطمئناً إلى صدق أو كذب كلامهم وكونه كلاماً مُستنداً إلى الدليل أو لا دليل عليه. ولم يكن مُعظمُ أولئك الناقلين قادرين على مُطابقة تلك الأخبار على القرآن والتمييز بين ما يُخالف القرآن منها وما يُوافقه! ولم يكن لهم اطَّلاع كافٍ على تاريخ الإسلام القطعيّ.

فمثلاً كان الشيخ ابن بابويه القُميّ المعروف بالشيخ الصدوق كاسباً يعمل ببيع الأرز في قم، وكان لديه دفترٌ فكان يقوم بأخذ دفتر كل من كان يظنه فرداً صالحاً وينقل ما فيه إلى دفتره. ولذلك نجد في رواياته وآثاره أخطاءً فاحشةً يُستبعد أن يقع فيها حتى طالب العلوم الشرعية الذي لا يزال في مرحلة المُقدِّمات، مما يجعله مصداقاً لمقولة: أخطاء الكبار كبيرةٌ أيضاً.  ولسنا هنا، بالطبع، في صدد ذكر كل أخطاء الشيخ الصدوق واحداً واحداً، ولكننا سنذكر على سبيل المثال ما رواه في الباب 34 من كتابه «عيون أخبار الرضا» أي «باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان»:

فعلى الرغم من الشيخ الصدوق ينقل أولاً عن الإمام الرضا u أن خطبة صلاة الجمعة تكون قبل الصلاة، خلافاً لخطبة صلاة العيدين، ويروي عن الإمام عِلَّة هذا التقدّم، إلا أن الشيخ نفسه يكتب ذيل هذا القسم من الحديث:

"قال مصنف هذا الكتاب رحمه الله: جاء هذا الخبر هكذا والخطبتان في الجمعة والعيد بعد الصلاة لأنهما بمنزلة الركعتين الأخيرتين، وإن أول من قدَّم الخطبتين عثمان بن عفان لأنه لما أحدث ما أحدث لم يكن الناس يقفون على خطبه ويقولون ما نصنع بمواعظه وقد أحدث ما أحدث؟ فقدم الخطبتين ليقف الناس انتظاراً للصلاة ولا يتفرقوا عنه‏.. "([39]).

ولا ريب أن كل من له إلمام بفقه الإسلام وتاريخه لا يُمكنه أن يقول مثل هذا الكلام. وفي الواقع لقد قال الشيخ كلاماً مُخالفاً لكلام جميع فقهاء الشيعة! إضافةً إلى أن كل مُطَّلع على تاريخ صدر الإسلام يعلم أنه لم يكن بوسع عثمان ولا من هو أقوى منه أو أكثر نفوذاً أن يُحدث مثل هذا التغيير في أحكام العبادات الإسلامية لاسيما عبادة شائعة كصلاة الجمعة.

ويروي الشيخ الصدوق أيضاً في الكتابه ذاته «عيون أخبار الرضا»، في الباب السادس، الحديث الأول (حديث لوح جابر) روايةً يأتي راويها وواضعها الجاهل بجابر بن عبد الله الأنصاري إلى فراش الإمام الباقر u في حال احتضاره كي يُبيِّن في حضور الإمام شهادته لأجل زيد بن عليّ –رحمة الله عليه- في حين أن جابر كان قد تُوفي على أكثر تقدير سنة 78 هـ . والإمام الباقر إن لم نقل إنه تُوفي سنة 116هـ .، فعلى أقل تقدير تُوفي سنة 114هـ .، [أي بعد مضي 36 عاماً على وفاة جابر بن عبد الله الأنصاري]، فكيف حضر جابر بن عبد الله بعد 36 عاماً من رحيله عن الدنيا، عند فراش الموت الذي كان الإمام الباقر يحتضر عليه؟ ([40]) [أتُراهُ بُعِثَ من قبره ليؤدي تلك الشهادة؟!!].

ونموذج آخر الحديث 29 في الباب 64 من الكتاب ذاته أي «عيون أخبار الرضا»، حيث ينقل الصدوق خبراً وضعه وضَّاعٌ غافلٌ ذكر فيه حدوث مُكالمةٍ بين الإمام الرضا وأحد القادة العسكريين للمأمون العبَّاسي ويُدعى «هرثمة بن أعين»، غافلاً عن أن هرثمة هذا كان قُتل قبل وصول الإمام الرضا u إلى خُراسان([41]).

ويروي جناب الشيخ الصدوق في كتابه المشهور «من لا يحضره الفقيه» عن الإمام المظلوم عن حضرة الصادق u حديثاً يُفيد أن الكرة الأرضية مستقرَّةٌ فوق حوت، ونصُّهُ:

"إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْأَرْضَ فَأَمَرَ الْحُوتَ فَحَمَلَتْهَا([42]) فَقَالَتْ حَمَلْتُهَا بِقُوَّتِي فَبَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهَا حُوتاً قَدْرَ فِتْرٍ فَدَخَلَتْ‏ فِي مَنْخِرِهَا فَاضْطَرَبَتْ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً فَإِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُزَلْزِلَ أَرْضاً تَرَاءَتْ لَهَا تِلْكَ الْحُوتَةُ الصَّغِيرَةُ فَزَلْزَلَتِ الْأَرْضَ فَرَقاً" ([43]).

إن من ارتكب هذه الأخطاء الفاحشة هم أشخاصٌ يُوصفون في كتبنا بأوصاف مثل: رئيس المُحدِّثين، عُمدة الفُضلاء، إمام عصره، الشيخ الأعظم (الأجلّ)، عماد الدين، رُكنٌ من أركان الشريعة (الدين)، الفاضل المُعظَّم وآية الله في العالمين وَ....وَ....!!

وبالطبع فإن أخطاء الصدوق أكثر مما ذكرناه بكثير، ولو أراد شخصٌ إحصاء أخطائه (التاريخية والقرآنية والنحوية) لاحتاج إلى كتاب بأسره([44]).

يشهد الله -عزَّ ذِكره- أننا لا نقصد من ذِكر هذه المسائل الحطّ من قَدْر ذلك المرحوم، بل قصدنا فقط وفقط أن لا يُخدع الطُلَّاب الشباب ذوي التجربة الضعيفة وسائر الناس أيضاً بتلك الألقاب والعناوين البرَّاقة ولا تُرهبهم دعايات أشباه العلماء والمُسترزقين بالدين من أهل المنابر، وأن لا يقبلوا بشيء مما يذكره أولئك العلماء إلا بعد التحقيق والتدقيق العلمي فيه بشكل حرّ ودون تعصّب وأحكام مُسبقة وبعد وزنه بميزان القرآن.

وليس المرحوم «مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيُّ» استثناءً من هذا الأمر. فهو أيضاً كان كاسباً في بغداد وكان يُدوِّن في دفاتره على مدى عشرين عاماً كلَّ خَبَرٍ كان يسمعه ممن هم على مذهبه أو ممن كان حديثهم مُوافقاً لمرامه ومسلكه أي من كانت تُعجبه رواياتهم، ولو أردنا أن نحكم بأقصى ما نستطيع من حُسن الظنّ وأن لا نتهمه بسوء النية فعلينا أن نقول: إن دراسة «الكافي» بشكل مُتجرّد ونزيه –كما سنرى في الصفحات الآتية- تُبيِّن بوضوح أنه لم يكن له علمٌ كافٍ بالقرآن، ولم يكن يُدرك في الغالب تعارض ما ينقله من أخبار مع القرآن، كما لم يكن يبذل الاهتمام اللازم بأحوال الرجال الذين يقوم بتدوين رواياتهم([45])!

يقول الشيخ المُفيد في كتابه «تصحيح اعتقادات الإمامية» في فقرة «فصل في النفوس والأرواح» بشأن كثير من أهل الحديث:

"لكن أصحابَنا المتعلقين بالأخبار أصحابُ سلامةٍ وَبُعْدِ ذِهْنٍ وَقِلَّةِ فِطْنَةٍ يَمُرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِم فيما سِمِعُوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها، ولا يُفَرِّقون بين حقِّها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها، ولا يُحَصِّلُون معانيَ ما يطلقونه منها."([46])

وعلى كل حال، لقد اخترت كتاب «أصول الكافي» من بين كتب الشيعة المُعتبرة، لأنهم يعتبرونه أفضل كتب الحديث لديهم وأكثرها وثوقاً، فإذا تبيَّن لنا بشكل قاطع تعارض أخبار هذا الكتاب مع الحُجَّتين الإلهيتين: القرآن الكريم والعقل السليم، أصبح حال سائر الكتب – إلى حدّ ما على الأقل- واضحاً.

يقول المثل: (بيت شعر بالفارسية وترجمته)

إذا كان ريش النسر يتساقط              فماذا يأتي من بعوضة ضعيفة؟

سوف نقوم في هذا الكتاب بالتحقيق والبحث في أخبار وأحاديث المُجلَّد الأول من كتاب «أصول الكافي»، وإذا تبيَّنت لنا الإشكالات الموجودة في أسانيد أحاديثه ورواتها، فسوف يعلم القارئ أي أشخاص قاموا بإيجاد المذاهب المُفرِّقة بين المسلمين بما وضعوه من أحاديث، وإذا اتَّضح لهم فساد متون رواياته فسوف يُدركون السبب في عدم جواز قبول مثل هذه الروايات.



([1])   النوري الطبرسي، مستدرك ‏الوسائل، ج 4، ص 240، نقلاً منه عن الشَّيْخِ أَبُي الْفُتُوحِ الرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ u.  والجملة جزء من حديث معروف في مصادر أهل السنة أخرجه الترمذي في السنن (2906) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ. وَفِي الْحَارِثِ مَقَالٌ".انتهى.  قلتُ: وأخرجه أيضاً بسندهم عن علي بن أبي طالب كل من: ابن أبي شيبة في المصنَّف (6، 125، رقم 30007)، والدارمي في السنن (2، 526، رقم 3331) ، وأحمد في المسند، 1، 91، والدارقطني في الأفراد كما في أطراف ابن طاهر (1، 194، رقم 269) وقال المُناوي: إسناده حسن. وأخرجه البزار في مسنده (6، 125، رقم 834)، وأبو يعلى في مسنده (1، 302، رقم 367). (المُتَرْجِم)

([2])   نهج البلاغة، الخطبة 125.

([3])   نهج البلاغة، الرسالة 53.

([4])   كان هذا العبد الفقير وحتى مدة طويلة بعد تخرجي من الدراسة في قم والنجف معتقداً بشدة بكتاب «الكافي» وحسن الظن به.

([5])   الأصول من الكافي، ج 2، ص 599، طبع دار الكتب الإسلامية. وأصل الحديث في مصادر أهل السنة مرويٌّ عن ابن مسعود - مرفوعاً وموقوفاً - وعن جابر وعن عائشة، أما حديث ابن مسعود فقد أخرجه الطبراني في الكبير (9، 132، رقم 8655)، قال الهيثمي في المجمع (7، 164): فيه الربيع بن بدر وهو متروك. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4، 108)، وابن أبى شيبة في المصنَّف (6، 131، رقم 30054)، وابن عدى في الكامل (3 ، 127، ترجمة 651 ربيع بن بدر بن عمرو بن جراد السعدي) وقال: عامة حديثه ورواياته عمن يروى عنهم مما لا يتابعه أحد عليه.

وأما حديث جابر: فأخرجه ابن حبان في صحيحه (1، 331، رقم 124)، والبيهقي في شعب الإيمان (2، 351، رقم 2010). قال الدارقطني في العلل (5، 102) يرويه ابن الأجلح عن الأعمش عن أبى سفيان عن جابر مرفوعًا والصحيح عن ابن مسعود موقوفًا.   وأما حديث عائشة فأخرجه أبو نصر السجزي (ت 444هـ) في الإبانة عن أصول الديانة، وقال: "هذا من أحسن الحديث وأغربه وليس في إسناده إلا مقبول ثقة".  انتهى.  قلتُ وأخرجه أيضاً: الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (3 ، 260)، عن محمد بن على مرسلاً. والحاكم النيسابوري في تاريخ نيسابور عن محمد ابن الحنفية عن على بن أبى طالب موصولاً. (المُتَرْجِم)

([6])   نهج البلاغة، الخطبة 161.

([7])   نهج البلاغة، الخطبة 83.

([8])   يقول الأستاذ البهبودي في كتابه "معرفة الحديث": "... وأما في الدور الثاني فبعدما كثر أصحاب الحديث ورواد المذهب، وتوفرت الأصول والمؤلفات وتداولتها أيدي الوراقين والصحفيين، تلاعبت بمواريثهم أيدي الغلاة الخونة وعملاء الزنادقة، فزادوا ونقصوا وغيَّروا وبدَّلوا وأحلوا حرام الله وحرَّموا حلال الله، عند ذلك كثُر التضاد والتهافت بحيث لا يوجد في أبواب الفقه والمعارف حديثٌ إلا وبإزائه ما يخالفه ولا يسلم حديثٌ إلا وفي مقابله ما يُناقضه ويُضاده. وبذلك تطرقت المُضادة والاختلاف إلى العقائد والفتاوى والأحكام، وكثيراً ما نرى كتب الحديث مختلفةً بالزيادة والنقصان". (معرفة الحديث، مركز انتشارات علمى وفرهنگى، ص 40).

([9])   يتضح أن الخرافيين والمُسترزقين بالدين الذين يخدعون العوام في زماننا أسوأ من علماء السوء والخرافيين المُتعصبين في زمن "ابن الغضائري"، لأنهم اكتفوا بالاتهام والافتراء فقط، في حين أن خرافيي عصرنا حكموا عليَّ وعلى أمثالي بالسجن والتغريب بل لم يتوانَ بعضهم عن محاولة قتلي!!

([10])  أي في سنة 1339 هجرية شمسية. (يوافق سنة: 1960م).

([11])  جاء في كتاب «رجال الكشي»، طبع كربلاء، ص 124، [أو ص 135 - 136 من طبعة مشهد، تحقيق د. حسن مصطفوي] أن الإمام الصادق (ع) كان يشكو من كثير من الرواة وكان يقول: "يا فيض! إن‏ الناس أولعوا بالكذب علينا......... و إني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير تأويله، و ذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا و بحبنا ما عند الله وإنما يطلبون الدنيا! وكلٌّ يُحِبُّ أن يُدْعَى رأساً..".

وفي الصفحة 255 من الكتاب نفسه [أو ص 301 من ط. مشهد،] جاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "قوم يزعمون أني لهم إمام، والله ما أنا لهم بإمام، ما لهم لعنهم الله؟ كلما سترتُ ستراً هتكوه، هتك الله ستورهم، أقول كذا، يقولون إنما يعني كذا، إنما أنا إمام من أطاعني".

ونقرأ أيضاً في الصفحة 257 [أو ص 305 من ط. مشهد] من الكتاب نفسه عن الإمام الصادق (ع): "إنا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس.....".  وجاء في الصفحة 259 من الكتاب ذاته [ أو ص 307 من ط. مشهد]  أن الإمام الصادق (ع) قال: "لقد أمسينا و ما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودتنا.". (المُتَرْجِمُ)

([12])  رجال الكشي، طبع كربلاء، ص275. [أو ص 324 - 325 من ط. مشهد].

([13])  رجال الكشي، ط. مشهد، ص 517، والمجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص314 - 315. (المُتَرْجِم)

([14])  رجال الكشي، طبع مشهد، 396- 397، و المجلسي، بحار الأنوار، ج 47 ، ص357. (المُتَرْجِم)

([15])  صرَّح الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه «فرائد الأصول» أن الأخبار المتعلقة بعرض الأحاديث على القرآن تبلغ حدّ التواتر المعنوي.

([16])  النوري الطبرسي، مستدرك ‏الوسائل، ج  13،  ص 333.

([17])  النوري الطبرسي، مستدرك‏الوسائل ومُستنبط المسائل، الطبعة الحجرية، ج 3، كتاب القضاء، ص186. أو الطبعة الحديثة، ج 17، ص 305. [هذه الرواية جاءت في تفسير العياشي، يُراجع تفسير العيَّاشي، طبع المكتبة العلمية الإسلامية بطهران، ج1، ص8].

([18])  تفسير العياشي، ج1، ص8. والمجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص244، و النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، 17، 304. (المُتَرْجِم)

([19])  تفسير العياشي، ج1، ص8. والمجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص165. (المُتَرْجِم)

([20])  تفسير العياشي، ج 1، ص 9. والبرقي، كتاب المحاسن، ج 1، ص221، والمجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص242. (المُتَرْجِم)

([21])  تفسير العياشي، ج 1، ص 9. (المُتَرْجِم)

([22])  رجال الكشي (طبع مشهد)، ص 224. والمجلسي، بحار الأنوار، 2، 250. (المُتَرْجِم)

([23])  رجال الكشي (طبع مشهد)، ص 224. والمجلسي، بحار الأنوار، 2، 250. (المُتَرْجِم)

([24])  حيدر علي قلمداران، ارمغان آسمان، طبع قم، ص174 فما بعد.

ولحسن الحظ فإن فقهاءنا بما في ذلك المُتقدمين منهم والمُتأخِّرين، وإن لم يطبِّقوا مفاد هذه الروايات في المعارف والعقائد أو في استنباط الأحكام الشـرعية، إلا أنهم على الأقل يعترفون، في مقام النظر والادعاء، بهذا الحكم الشرعيّ. فعلى سبيل المثال يقول الشيخ المفيد الذي كان من كبار المُتقدِّمين في كتابه «تصحيح اعتقادات الإمامية»: في الفصل التاسع الذي يأتي بعد فصل «في أفعال العباد»:

"وكتاب الله تعالى مُقَدَّمٌ على الأحاديث والروايات، وإليه يُتَقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها فما قضى به فهو الحقّ دون ما سواه". ومن المُتأخِّرين أيضاً الشيخ «مرتضى الأنصاري» المعروف بالشيخ الأعظم، رغم اعترافه أنه: "من جملة الواضحات أن الأخبار الواردة عن أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين- المُخالفة لظواهر الكتاب والسنَّة في غاية الكثرة"، لكنه لحسن الحظ بيَّن لنا طريق النجاة فكتب يقول في كتابه «فرائد الأصول» المشهور بين طُلَّاب العلوم الشرعية باسم «الرسائل»: "الأخبار الواردة في طرح الأخبار المُخالفة للكتاب والسنَّة ولو مع عدم المُعارض، متواترة جداً".  ومن البديهي أن سائر الأخبار لا يُمكنها مقاومة الخبر المُتواتر.

([25])  وانظر ما يؤيد ذلك لدى ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، ترجمة ميسرة بن عبد ربه. (المُتَرْجِمُ)

([26])  الشهيد الثاني، الدراية، ص 57 - 58. (المُتَرْجِم)

([27])  الشهيد الثاني، البداية في علم الدراية، ص 71 - 75، أو الدراية، (الطبعة الثالثة)، ص 58-59. (المُتَرْجِم)

([28])  لاحظوا أن هؤلاء الوضَّاعين لم يكونوا يذكرون اسمهم في سلسلة أسانيد الأحاديث، بل كانوا يضعون أسماء أشخاص عدول محمودي السمعة على أنهم رُواة أخبارهم الموضوعة، كي تلقى أحاديثهم الموضوعة القبول. ولهذا السبب نعتقد أن تمحيص متن الحديث من أهم الأمور ضرورةً عند الأخذ بالحديث.

إن أحد أخطاء بعض علماء الرجال مثل الشيخ «الممقاني» أنه كان يقول عن كل راوٍ يروي حديثاً عن الأئمة عليهم السلام: "والظاهر إنه إمامِيٌّ"، هذا في حين أن «الممقاني» ذاته يروي في أحد مؤلفاته الموسوم بـ «مقباس الهداية» (ص89) حديثاً عن الإمام الصادق (ع) يقول فيه: "ما أنزل اللهُ سبحانه آيةً في المنافقين إلا وهي فيمن ينتحل التشيع!" (رجال الكشـيّ، طبع كربلاء، ص254)، وينقل «الممقاني» أيضاً في كتابه المذكور ذاته (ص88) عن الإمام الصادق (ع) قوله: "إِنَّ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ هَذَا الْأَمْرَ لَمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا !!". (رجال الكشـيّ، ص252، أو ص 297 من طبعة مشهد). إذن مُجرَّد نقل الحديث عن الأئمة لا يُعدُّ دليلاً على محبتهم وموالاتهم، فرُبَّ منافق يُظهر التشيع يضع الحديث باسمهم بقصد تخريب الإسلام وتشويه شخصية أولئك الأعزاء الكرام. كما أن مُجرَّد كون الراوي إمامياً لا يعتبر دليلاً على صدقه.

والخطأ الآخر الذي وقع فيه الممقاني في جميع أنحاء كتابه الرجالي أنه كان يقول: "يُمكن قبول الأخبار المنقولة عن أفرادٍ مجهولين أو ضُعفاء أو واقفيَّة أو كذَّابين في كتب علمائنا الثقاة المُعتمدين، لأن الرواة الذين في رأس السلسلة الذين رووا عن أولئك الأفراد الضُّعفاء، موثوقون!!

وهذا البيان ليس سوى مغالطة لأنه كما ذكرنا، عندما كان الوضَّاعون والكَذبة يريدون نشر حديث موضوع كانوا يُدرجون أسماء رُواةٍ موثوقين في سند ما يفترونه من أحاديث، فلا يُمكن الاعتماد على مُجرَّد كون الثقة الفلاني روى روايةً. أولاً: لأنه من الممكن أن يكون الراوي الموثوق الفلانيّ لا علم له أساساً بذلك الحديث بل تمّ استخدام اسمه وسيلةً لترويج ذلك الحديث. وثانياً: أن الشخص الموثوق مهما كان ثقةً فإنه ليس بمعصوم، وربما يكون الراوي الذي نقل عنه قد اغترَّ بظاهره المُخادع.

وقد صرَّح آية الله الخوئي أيضاً أن أصحاب الأصول وكتب الرواية لم يكونوا ثقاة وعدولاً جميعهم، ولهذا السبب فإن احتمال الكذب واردٌ في حقهم، وإذا كان صاحب «الأصل» ممن لا يُحتمل في حقه الكذب فإن احتمال وقوعه في السهو والخطأ واردٌ أيضاً. ثم يُشير إلى الروايات التي تقول: إن شهر رمضان لا يُمكن أن ينقص عن ثلاثين يوماً، والتي وردت في المجلد الرابع من «تهذيب الأحكام» باب «علامة أول شهر رمضان وآخره»، ومن جملتها الحديثان رقم 477 و 482 ويقول: "نرى أن الشيخ الطوسي قُدِّس سرّه يُناقش في صحة هذا الحديث الذي رُوي عن حذيفة والذي تضم سلسلة رواته «محمد بن أبي عُمير» وشيخه الذي روى عنه من طرق موثوقة مُعتبرة. ومنشأ هذا الأمر ليس إلا سهو الرواة واشتباههم وخطأهم. إذن إذا لم يكن من الجائز الحكم بصحة مثل هذه الروايات –صحيحة السند- فأي حال سيكون للروايات التي ينقلها الضعفاء والمجاهيل؟!". آية الله الخوئي، معجم رجال الحديث، ج1، ص23-24.

([29])  المجلسي، بحار الأنوار، 44، 69. (المُتَرْجِمُ)

([30])  رجال الكشي، طبع مشهد، ص 224، والمجلسي، بحار الأنوار، 2، 250. (المُتَرْجِمُ)

([31])  رجال الكشي، طبع مشهد، ص 224، والمجلسي، بحار الأنوار، 2، 250. (المُتَرْجِمُ)

([32]) الشوشتري (أو التُستري)، الأخبار الدخيلة، ج1،  ص216 فما بعد.

([33])  انظر إتقان المقال، ص 368.

([34]) المجلسي، بحار الأنوار، 2، 250.

([35]) المجلسي، بحار الأنوار، 44، 69.

([36]) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (ع)،  1،  304، والمجلسي، بحار الأنوار، 26،  239. (المُتَرْجِم)

([37]) هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، ص 148 فما بعد.  

([38]) هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار، ص88 و 89.  

([39])  الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2، 112. (المُتَرْجِمُ)

([40])  من المفيد الرجوع في هذا الموضوع إلى ما ذكره المرحوم «قلمداران» في كتابه «شاهراه اتحاد» أي طريق الاتحاد، ص167 حول نقد وتمحيص حديث لوح جابر هذا.

([41])  في هذا الحديث إشكالاتٌ أخرى أيضاً ولسنا هنا في مقام نقد الحديث وتمحيصه بشكل كامل.  

([42])  وقد وقع الكُلينيّ أيضاً في هذا الخطأ الفاضح ذاته فأورد هذا الحديث المُضحك في «روضة الكافي» الحديث رقم 55.

([43])  الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، باب صلاة الكسوف والرياح والظُّلَم وعِلَّتها، ج2، ص 543-544، حديث 1512 و 1513. وروى أيضاً حديثاً (برقم 1517) حول الرياح عن أمير المؤمنين u أنه قال: "لِلرِّيحِ رَأْسٌ وَجَنَاحَان‏"!! واعتبر في حديث آخر (رقم 1522): أن منشأ هبوب معظم الرياح هو البيت الحرام!!

([44])  كتب الشيخ المُفيد في كتابه «تصحيح اعتقادات الإمامية» في فصل «في الإرادة والمشيئة» بشأن الشيخ الصدوق: "لم يكن ممن يرى النظر فيُميِّز بين الحق منها والباطل ويعمل على ما يُوجب الحُجَّة، ومن عوَّل في مذهبه على الأقاويل المُختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف ما وصفنا!".

([45])  يقول هاشم معروف الحسني: "الغريب أن يأتي شيخ المُحدِّثين بعد جهاد طويل بلغ عشرين عاماً في البحث والتنقيب عن الحديث الصحيح فيحشد في كتابه تلك المرويَّات الكثيرة في حين أن عيوبها متناً وسنداً ليست خفيَّةً بنحو تخفى على من هو أقل منه علماً وخبرةً بأحوال الرواة!........ وكم كنت أتمنَّى أن يُقيِّض اللهُ سُبحانه من يُعلِّق على الطبعة الحديثة ويضع إشارة على كل رواية لم تستوفِ شروط الصحة". (الموضوعات في الآثار والأخبار، ص253-254).

([46])  كتب المرحوم الكُلَيْنِيُّ في مُقدِّمة «الكافي» مُخاطباً صديقه: " يا أخي –أرشدك الله- أَنَّهُ لَا يَسَعُ أَحَداً تَمْيِيزُ شَيْ‏ءٍ مِمَّا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ –عليهم السلام- بِرَأْيِهِ إِلَّا عَلَى مَا أَطْلَقَهُ الْعَالِمُ u بِقَوْلِهِ: اعْرِضُوهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَرُدُّوهُ..........." (الكافي، ج 1،  ص67).   

ولكن للأسف هو نفسه، وربما لأنَّ بضاعته من العلم بالقرآن مُزجاة، لم يعمل بما أرشد إليه صديقه، ولو عمل بذلك لكان عليه أن يمسح كثيراً من الأخبار التي أوردها في كتابه احتراماً للقرآن!

ويذكر الكُلَيْنِيُّ بعد بيانه لقواعد الأخذ بالحديث، أمراً يُبيِّن أنه لم يكن شخصاً بصيراً ولم يكن يُفكِّر فيما يرويه أو يتأمَّل فيه كما هو حقُّه، فيقول: "وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَقَلَّهُ وَلَا نَجِدُ شَيْئاً أَحْوَطَ وَلَا أَوْسَعَ مِنْ رَدِّ عِلْمِ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْعَالِمِ u وَقَبُولِ مَا وَسِعَ مِنَ الْأَمْرِ فِيهِ بِقَوْلِهِ:  بِأَيِّمَا أَخَذْتُمْ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكُمْ" (الكافي، ج 1،  ص67).