21. عِلْمُ الغيب والمعجزات والكرامات في القرآن
كما قلت في كتابي «خرافات وفور در زيارات قبور»([1]) (الخرافات الوافرة في زيارات القبور)، فإنه يُستفاد من القرآن الكريم أن الأنبياء لم يكونوا يعلمون الغيب اللهم إلا ما يتعلق بإبلاغهم شريعة الله وبعض الأمور التي لدنا أدلة وحجج كافية عليها، ولم يكونوا أبداً عالمين بما كان وما يكون.
فعلى سبيل المثال لم يكن لدى نبي الله يعقوب u في فلسطين أي خبرٍ عن أحوال ابنه الحبيب يوسف u. ولم يكن حضرة نوح u يعلم شيئاً عن الأمور الشخصية لأتباعه وأنهم ماذا يعملون حقيقةً (الشعراء/112). ولم يعرف إبراهيم - عليه آلاف الحياة والثناء - أن ضيوفه لم يكونوا بشراً بل كانوا ملائكة العذاب (الذاريات/25). ولم يكن حضرة سليمان u مطَّلعاً على أحول قوم «سبأ» قبل أن يأتيه الهدهد بأخبارهم. (النمل/22). ولم يكن حضرة موسى u يعلم أن أخاه هارون لم يكن له أي ذنب أو تقصير فيما فعله قومه من عبادة العجل (الأعراف/150)، كما لم يعرف موسى u أيضاً أن صاحبه في السفر كان قد نسي الحوت (الكهف/62)، والقرآن يبين لنا أن النبي o قد أعجبه قول بعض الناس الذين أشهدوا الله على صدق قلوبهم مع أنهم كانوا كاذبين في الواقعين (البقرة/204-205) في حين أنه لو كان النبيُّ مطلعاً على حقيقة ما في قلوبهم لا أُعْجِب بقولهم. ولهذا السبب لم يكن حضرة النبي o يعلم كثيراً من أهل المدينة الذين مَرَدُوا [أي مَرَنوا واعتادوا] على النفاق (التوبة/101)، فكيف يمكن أن يكون الإمام مطلِّعاً على ضمائر العباد وما في صدورهم؟!!([2])
وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض الآيات القرآنية مع شيء من التوضيحات من أوثق تفاسير الشيعة:
قال تعالى: 36﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا 105 وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا 106 وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا 107﴾ [النساء/106-107].
ذكر الطَّبْرَسيُّ في تفسيره «مجمع البيان» في شأن نزول هذه الآيات أن النبيَّ o، في حكمه وقضائه بين متخاصمَيْن، ظنَّ أحدهما بريئاً وشَرَعَ بالدفاع عنه، في حين أنه كان مُذنباً في الواقع ، فنزلت هذه الآيات المباركات([3]). وهذا يدل بوضوح على أن النبي o لم يكن عالماً بذات صدور الناس، ولا مُطَّلِعاً على ما في ضمائرهم، وإلا لما دافع عن المجرم وأراد تبرئته. فهذه الآيات وعشرات من أمثالها أكثر الأدلة قطعيةً على كَذِبِ الروايات التي تزعم أن الأئمة كانوا يعلمون ما في ضمائر الناس، أو التي تعرِّفُ بهم بوصفهم أشخاصاً يتمتَّعون بالقدرة على إظهار معجزات متنوعة.
37واعلم أنه إضافةً إلى آيات القرآن، فإن هذا الأمر ورد أيضاً في الروايات، فقد روى الكشي بسند صحيح أن أبا بصير قال لصادق أهل البيت -عليهم السلام- "إِنَّهُمْ يَقُولُونَ! قَالَ: وَمَا يَقُولُونَ؟؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ يَعْلَمُ قَطْرَ الْمَطَرِ وَعَدَدَ النُّجُومِ وَوَرَقَ الشَّجَرِ وَوَزْنَ مَا فِي الْبَحْرِ وَعَدَدَ التُّرَابِ؟ فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ! فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ لا وَاللهِ مَا يَعْلَمُ هَذَا إِلا اللهَ!»([4]).
وروى الكِشِّيُّ أيضاً عن الإمام الرضا u أنه لمَّا قيل له: "إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ؟! فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي فَوَاللهِ مَا بَقِيَتْ فِي جَسَدِي شَعْرَةٌ وَلا فِي رَأْسِي إِلا قَامَتْ. قَالَ ثُمَّ قَالَ: لا وَاللهِ مَا هِيَ إِلا رِوَايَةٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ o"([5]).
و روى الكشيّ في رجاله عن الإمام الصادق u أنه قال: "والله لو أقررت بما يقول فيَّ أهلُ الكوفة لأخذتني الأرض، وما أنا إلا عبدٌ مملوكٌ لا أقدر على ضرّ شيءٍ ولا نفع شيءٍ."([6]).
وهذه الروايات المذكورة تتفق مع القرآن لأن كتاب الله يقول للنبي o: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف/ 188].
في هذه الآية نقطتان ينبغي الانتباه إليهما والتمعن بهما: النقطة الأولى أن الله أمر نبيه أن يقول: لو كنت أعمل الغيب لاستفدت منه قطعاً، وهذا الأمر جاء بلام التأكيد، فقول الذين يدعون أن النبي والإمام كانا يعلمان الغيب ولكنهما لم يكونا مأمورين بالاستفادة من هذا العلم قول باطل.
والنقطة الثانية أنه في هذه الآية تَمَّ نفي وإنكار نتيجة العلم بالغيب وفائدته التي هي الاستكثار من الخير وعدم مس السوء للنبي، مما يفيد أن كلا نوعي العلم بالغيب (العلم الذاتي المستقل بالغيب، والعلم بالغيب الذي يفيضه الله تعالى على نبيه بشكل دائم في الموارد المختلفة) لا يمكن نسبتهما إلى النبي. لأن كيفية العلم بالغيب وطريقة حصوله لا تأثير لها في نتيجته التي هي الاستكثار من الخير. فلما نُفِي الاستكثارُ من الخير فإن علم الغيب -سواءً كان مستقلاً أم غير مستقلٍ وبإذن الله- مُنْتَفيٌ. (فتدبر)
والأهم من ذلك أنه لا يوجد في القرآن الكريم أي دليل على أن أحفاد النبي o كانوا يعلمون الغيب، وعلى هذا يتبين بطلان كثير من روايات الكافي وأشباهه من الكتب.
ولا يخفى أن مثل هذه العقائد المغالية حول علم الأئمة بالغيب وإظهارهم المعجزات -أو قُلْ الكرامات- كانت مرفوضة مِنْ قِبَلِ كثيراً من علماء الشيعة القدماء، ومن البين أن مثل هذه الروايات لم تكن تلق اهتماماً من قبل المتقدمين الذين لم تكن عقيدتهم بعيدةٌ عن القرآن هذا البعد الذي نشاهده اليوم، ومن جملة ذلك الشيخ الصدوق الذي يروي عن أستاذه محمد بن حسن بن وليد تصريحه بأن أول درجات الغلو نفي السهو عن النبي o. (في غير موارد إبلاغ الوحي وأحكام الشريعة) ونص عبارته [كما ذكرها في كتابه «من لا يحضره الفقيه» ]:
"كَانَ شَيْخُنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الوَلِيدِ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ أَوَّلُ دَرَجَةٍ فِي الغُلُوِّ نَفْيُ السَّهْوِ عَنِ النَّبِيِّ o، وَلَوْ جَازَ أَنْ تُرَدَّ الأَخْبَارُ الوَارِدَةُ فِي هَذَا المَعْنَى لَجَازَ أَنْ تُرَدَّ جَمِيعُ الأَخْبَارِ وَفِي رَدِّهَا إِبْطَالُ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَأَنَا أَحْتَسِبُ الأَجْرَ فِي تَصْنِيفِ كِتَابٍ مُنْفَرِدٍ فِي إِثْبَاتِ سَهْوِ النَّبِيِّ o وَالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى "([7]).
علاوةً على ذلك كتب الشيخ الصدوق في كتابه «عيون أخبار الرضا» باب 19 (باب ما جاء عن الرضا في علامات الإمام) بعد ذكر الحديث الأول والثاني يقول:
38"والإمامُ يُولَدُ وَيَلِدُ وَيَصِحُّ وَيَمْرَضُ وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَبُولُ وَيَتَغَوَّطُ وَيَنْكِحُ ويَنامُ ويَنسى ويَسْهُو ويفْرَحُ ويحْزَنُ ويَضحَكُ ويَبكي ويَحيا ويَموت......".
وقد ذكر أكثر من مرة الغلاة والمفوضة وأعقبهم بعبارة «لعنهم الله» أو «عليهم غضب الله».
وقال الشيخ «عبد الجليل القزويني» [من علماء الشيعة في القرن السادس]، في كتابه «النقض» الذي كتبه رداً على أهل السنة ودفاعاً عن التشيُّع:
"إن ما ذكره [أي مؤلف كتاب بعض فضائح الروافض]، وما أورده «محمد بن النعمان الأحوال» في كتاب له من أن الأئمَّة يعلمون جميعاً الغيب، وأنهم مطَّلعون على الغيب وهم في قبورهم إلى حد أنه لو قدم أحد إلى زيارتهم يعلمون أنه منافق أو موافق، وعدد الخطوات التي قطعها ويعلمون أسماء كل شخص [غير صحيح]. بل إن ما ذكره من كلام لا معنى له وبعيد عن العقل ومخالف للشرع والنقل لأن القرآن الكريم وإجماع المسلمين على أن الغيب مختص بالله تعالى وحده، ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه/7]، ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل/65]، ﴿فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ [الجن/26]، ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام/59]، والنبي المصطفى o على جلال قدره وعلوِّ منزلته ودرجة نبوَّته، لم يكن يعلم وهو حيٌّ في مسجد المدينة بما يجري في أسواقها وأحوالها الأخرى طالما لم يأته جبريل ويخبره بذلك، والأئمة ليس لهم درجة الأنبياء وقد رقدوا في أرض خراسان وبغداد والحجاز وكربلاء وتحرَّروا من قيد الحياة، فكيف يعلمون أحوال أهل العالم؟! إن هذا القول بعيدٌ عن العقل والشرع، ولم يقل به إلا جماعة من الحشوية ألصقوا أنفسهم بهذه الطائفة، ونحمد الله أنه لم يبق منهم إلا القليل وقد تبرأ أصوليو الشيعة وتبرؤوا من مثل هذه الدعاوي فلا مجال لأي مجبِّرٍ أو مشبِّهٍ خارِجِيٍّ أن يطعن بالشيعة من هذا الباب"([8]). انتهى.
وقال مفسر الشيعة المعتمد المرحوم الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» في تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة/109]:
39"و ذكر الحاكم أبو سعيد في تفسيره أنها تدل على بطلان قول الإمامية إن الأئمة يعلمون الغيب وَأقول إن هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم فإنا لا نعلم أحدا منهم بل أحدا من أهل الإسلام يصف أحدا من الناس بعلم الغيب وَمن وصف مخلوقا بذلك فقد فارق الدين وَالشيعة الإمامية برآء من هذا القول فمن نسبهم إلى ذلك فالله فيما بينه وَبينهم([9])" ([10]).
ونذكر هنا في موضوع المعجزات والكرامات ما قاله الأستاذ «قلمداران» (رحمه الله):
"معظم هذه المعجزات والكرامات منقولة عن أشخاص مجهولين، وحتى لو كانوا معلومي الحال لما جاز الالتفات إلى رواياتهم، لأن المعجزة هي التي تقع في العلن وأمام عامَّة الناس كي تكون سبباً في تقوية عقيدة الخَلْق وإتمام الحجة على الناس، أما المعجزة التي يدَّعي شخصٌ واحدٌ رؤيتها، مثلها مثل الإبداع في الظلام وقراءة الشعر في زاوية المنزل لا يمكن أن تكون حجَّةً على أحد أو دليلاً على حقَّانيَّة من أظهرها!
لو كانت حقَّانيَّة إمام من الأئمة تثبت بمثل هذه المعجزات التي نقلها لنا فرد واحد أو بضعة أفراد معدودين، فإن كل طائفة ومذهب اخترعت مثل هذه المعجزات لعظمائها!! بل قد تروي معجزات أعجب من معجزات أئمة الشيعة، وللتحقُّق من هذا المعنى......... ارجعوا إلى كتبٍ مثل: كتاب «تذكرة الأولياء» للشيخ عطار، أو كتاب «إسعاف الراغبين» لليافعي، أو كتاب «نفحات الأنس» للجامي وأمثالها التي هي في متناول أيدي الجميع، لترى كيف أنه تنسب لأقطاب الصوفية...... معجزات مثل إحياء الموتى و طاعة الحيوانات لهم ويعتقد ناقلو تلك المعجزات أنها تبلغ حد التواتر المعنوي! فهؤلاء أيضاً يمكنهم أن يدَّعي مثل هذا الادِّعاء!! إذن فلا يُعد هذا ميزاناً صحيحاً، لأنه لا يمكن الوصول إلى حقٍّ ببيان مثل هذه المعجزات التي أكثرها مجرد أوهام، وإلا لكان جميع المدَّعين لها على حق!"([11]).
وكتب الأستاذ الشيخ هاشم معروف الحسني يقول:
"إن سير الأحداث يؤكِّدُ لنا أنَّهم [أي الأئمة عليهم السلام] لم يلجؤوا إلى الإعجاز حتى في أدقّ المراحل وأشدّها خطراً على أنفسهم وعلى الإسلام، وفي الحالات العصيبة كانوا يَظهرون لأصحابهم بمظهر سائر الناس العاجزين عن مجابهة الأخطار، وقد سمعوا وشاهدوا من أعدائهم شتَّى أنواع العسف والجور والتهم، وقابلوا كل ذلك بالصبر الجميل والتسليم لقضاء الله وقدره، مع أنهم لو سألوا الله سبحانه لوفَّر لهم ما يحبون ويرغبون"([12]).
أيها القارئ الكريم! استناداً إلى كل ما ذُكِر، إذا تدبَّرْنا آيات القرآن الكريم بشكل متجرِّد ودون آراء مسبقة سوف نرى أن كتاب الله يؤكد أن أنبياء الله العظام -بمعزل عن مسألة الوحي الإلهي إليهم والمعجزات التي كان الله يظهرها الله على أيديهم لتكون دليلاً على صلتهم بعالم الملكوت وهي حالة استثنائية - هم بشر مثلنا، كما يؤكد أنهم لا يملكون أيَّ صفات فوق بشرية، وخلافاً للروايات، لا نجد في القرآن الكريم أي أثر أو خبر عن امتلاك الأنبياء لتلك الصفات الخارقة التي نجدها منسوبةً للأئمة في الأبواب المختلفة لكتاب «الكافي»([13])، فكتاب الكُلَيْنِيّ هذا مليء بالمعجزات العجيبة والغريبة، إلى درجة أنه ينسب أحياناً المعجزات إلى الأشخاص الذي هم من حاشية أولئك الأئمة أو أصحابهم، فعلى سبيل المثال تتكلم «فضة» مع الأسد([14])، في حين أن علماء الإسلام، أعم من الشيعة أو السنة، يقولون في كتبهم الكلامية (أي العقائدية) وكتب التفسير عند بحثهم لمسألة المعجزات: إن أغلب معجزات الأنبياء كانت تتناسب مع الأمور التي كان يهتم بها أهل عصرهم، ففي زمن موسى u مثلاً كان الناس مفتونين بالسحر والشعوذة والعلوم الغريبة وكانوا يهتمون بها كثيراً فكانت معجزة حضرة موسى (ع) اليد البيضاء وتحويل العصا إلى ثعبان و....، وفي زمن حضرة عيسى (ع) كان الناس مهتمين بعلم الطب فكانت معجزته إحياء الموتى وشفاء الأكمه والأبرص و... . ومع تقدم العقل البشري تدريجياً كانت معجزة النبيّ الأكرم o، بدلاً من إخراج الناقة من جبل، معجزةً أقرب إلى قبول العقل وأكثر صلة بالأدب والعلم، والأهم من كل ذلك أنها معجزةٌ باقيةٌ، ومع وجود مثل هذه المعجزة لا حاجة إلى إحياء البقرة الميتة لامرأة أرملة([15])، أو جعل شجرة ميتة جافة تورق على الفور أوراق خضراء وتحمل الثمار وأمثال تلك الأمور! لأن أمثال هذه المعجزات لا ينسجم مع السير التكاملي للمعجزات.
ومن الجهة الأخرى فإن هذه الأحاديث المضحكة جعلت بعض الناس يشك في أصل وقوع المعجزات، حتى أن أمثال الكاتب الملحد [علي دشتي] مؤلف كتاب «بيست وسه سال» أي «ثلاثة وعشرون عاماً» سعى إلى الإيحاء بأن النبي لم يكن لديه أي معجزة على الإطلاق وأنهم لما كانوا يطلبون منه المعجزات كان لا يملك إلا أن يقول: سبحان ربي! هل كنت إلا بشراً رسولاً؟
ونقول ردَّاً على هذا الكلام الباطل: إن العلماء يقولون محقين: لم يكن الأنبياء مصانع لتوليد المعجزات حسب الطلب، فلم يكونوا يظهرون أنواع المعجزات المختلفة في نمطها ولونها وحجمها حسب طلب المشترين وتوصية كل إنسان مهما كان لجوجاً ومعانداً! لهذا السبب كانت الاستجابة لطلب كثير من اقتراحات المطالبين بالمعجزات - وطلباتهم غير المعقولة وغير المبررة والتي لا فائدة منها- أمراً مخالفاً للهدف من بعثة الأنبياء، بل للمعجزة شروط خاصة وهي أن تكون بهدف خلق الطمأنينة لدى الأفراد الذين يبحثون عن الحق والمنصفين، وأن تتم في العلن وأمام الملأ لا على نحوٍ خفِيٍّ أو أمام فرد أو فردين أو بضعة أفراد معدودين، وأن تتناسب مع أحوال عصر ظهور النبي، وإلا فلَمَّا كان الأنبياء أسوة للبشرية وقدوة لها فإنهم لا يلجؤون من حيث المبدأ إلى حل مشكلاتهم من خلال الإعجاز، فلم يكن الأمر أبداً أنهم كانوا يظهرون المعجزات كل يوم وكل ساعة وفي كل مكان وفي كل مورد يرغبون به، بل كانوا مثل بقية عباد الله يسعون من خلال الطرق المعقولة والعادية وبالصَّبْر وتحمّل المشقّات وبإعمال العقل والتفكير إلى الوصول إلى أهدافهم وحل المشكلات التي تواجههم من خلال المجاري الطبيعية للأمور.
إن كلام العلماء هذا صحيح تماماً ونحن نعتقد به أيضاً ولكن ما هي الإجابة التي يجيبونها عن السؤال التالي: لماذا امتلأ كتاب الكافي بالمعجزات الصغيرة والكبيرة ولماذا كان أحفاد النبيo خلافاً لجدهم الكريم يُظهرون المعجزات حتى دون أن يُطلَب منهم وأمام بضعة أشخاص غالباً ممن لم يكونوا منكرين لمقامهم، بل حتى يظهرون المعجزة لأجل دفع قرضهم([16])!!
ورغم أنّ حال كاتب هذه السطور بعد السجن والأوضاع الحالية التي أصبحتُ فيها لا تسمح لي بمزيد من التفصيل، إلا أنني أرى من الضروري، أداءً لواجبي الديني وإتماماً للحجة على إخواني في الدين أن أتكلّم في هذا الموضوع بشكل أكثر تفصيلاً لأن المسترزقين من الخرافات والمتعصّبين المذهبيين يحاولون أن يفسِّروا آيات القرآن الكريم على نحو مقلوب وبالمغالطة، ويلوون عنق الآيات ليجعلوها تدل على ما يذهبون إليه من أهداف مذهبية! من ذلك مثلاً أنهم يقولون:
"كلنا نعلم أن حضرة يعقوب u بكى بكاءً شديداً على إثر فراقه لابنه الحبيب إلى درجة أن بَصَرَهُ كُفَّ في آخر عمره. وبعد سنوات طويلة جاء البشير بخبر يوسف وأمر يوسف إخوته أن يلقوا بقميصه على وجه أبيه كي يرتد بصيراً. يقول القرآن في هذا الأمر: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ [يوسف/93]. فجاء البشير وألقى القميص على وجه يعقوب فعاد إليه بصره على الفور كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ [يوسف/96].
هنا يجب أن نرى: ما علة عودة البصر ليعقوب؟ هل كان ذلك عمل الله المباشر ولم يكن لإرادة يوسف ورغبته أي تدخّل في الموضوع؟ أم أنّ عودة البصر كانت معلولة لإرادة يوسف ورغبته، أي كان يوسفُ قادراً، استناداً إلى تجلي القدرة التي اكتسبها من منبع القدرة، أن يفعل مثل ذلك الفعل بإذن الله؟ إن الاحتمال الأول ضعيفٌ جداً ولا أساس له، لأنه إذا قلنا إن شفاء يعقوب كان عمل الله المباشر، لم تكن هناك حاجة إلى أن يأمر يوسف إخوته أن يلقوا بقميصه على وجه أبيه كي يرتدَّ بصيراً، كما لم تكن هناك ضرورةٌ أن يعمل البشير بما أمره به يوسف وأن يلقي بالقميص على وجه الأب، بل كان يكفي أن يدعو يوسفُ اللهَ ويستجيب اللهُ دعاءَه.
بناءً على ذلك، لا مندوحة من القول إن إرادة يوسف الروحية ورغبته وقدرته الباطنية المعنوية كانت مؤثرةً في إعادة البصر إلى أبيه.....
إن القرآن المجيد ينسب إلى حضرة المسيح سلسلةً من الأعمال ويبيِّن لنا أن جميع تلك الأعمال كانت تنبع من قوة المسيح الباطنية وإرادته الخلاقة كما قال تعالى: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [آل عمران/ 49].
في هذه الآيات نسب حضرة المسيح الأمور التالية إلى نفسه:
1 - أصنع من الطين كهيئة الطير.
2 - أنفخ فيه.
3 - أُبرئ الأكمه (أي الأعمى من الولادة).
4 - أبرئ الأبرص.
5 - أحيي الموتى.
يعتبر حضرة المسيح نفسه فاعلاً لهذه الأمور، ولا يقول إنه سيطلبها من الله وأن الله سيستجيب له ويفعل ذلك، بل يقول: إنني أفعل هذه الأعمال بإذن الله. ما هو إذْنُ الله في تلك الأفعال؟ هل إذْنُ الله في تلك الموارد إذنٌ لفظيٌّ؟ لا شك أنه ليس كذلك، بل المقصود منه الإذْنُ الباطني، بمعنى أن اللهَ منح عبدَه كمالاً وقدرةً وقوةً تجعله قادراً على القيام بمثل تلك الأمور.
إن الشاهد على هذا التفسير هو أن البشر لا يحتاجون إلى إِذْنِ الله في الأمور غير العادية فقط، بل يحتاجون إلى إذْنِ الله في جميع الأمور ولا يمكن أن يحصل عمل دون إذْنِه. إن الإذْنُ الإلهي في جميع الموارد هو أن يملأ الفاعلَ من قدرة رحمته..... "([17]). انتهى.
أقول: لست أدري! هل هؤلاء الكُتَّاب جهلةٌ أم يتجاهلون؟! لأنه - كما يقول المفسِّر القدير جناب الأستاذ مصطفى الطباطبائي - أولاً: من الواضح تماماً أن حضرة يعقوب u كان من أنبياء الله العظام وكانت يده المباركة التي عبد الله بها مراراً وتكراراً سنواتٍ طويلة، أكثرَ قداسةً وأعزَّ من قميص لم يكن في نهاية الأمر سوى قماشة - حتى لو قلنا أنها تقدَّست ببركة لمسها مِنْ قِبَلِ البدن المطهر لحضرة يوسف u - . والآن لو كان لشخصية النبي o وإرادته وقدرته الروحية والباطنية دخل في ظهور هذه المعجزة فلماذا لم يعد البصر لحضرة يعقوب u بإمراره يدَه على عينيه؟! الحقيقة أن الله أراد أن يبين ارتباط هذه المعجزة التي أراد إظهارها بحضرة يوسف u وأن تظهر تلك المعجزة بوصفها تأييداً له، أي أراد أن يعود البصر إلى والد يوسف u بمجرد لمس قميص يوسف لوجهه. في حين أنه لو كانت المعجزة متعلقة على نحو من الأنحاء بشخصية الأنبياء وقدرتهم الباطنية لما كان هناك وَجْهٌ لأن نعتبر حضرة يعقوب أقلَّ قدرةً روحيةً من حضرة يوسف - عليهما آلاف التحية والثناء - أو أن نعتبر أن يد حضرة يعقوب المباركة أقل شأناً من قميص حضرة يوسف! (فتأمل جداً).
ثانياً: هذا الموضوع أيضاً ينطبق على تحول عصا حضرة موسى - سلام الله تعالى عليه - إلى ثعبان، فلو كان تحوُّلُ ماهية العصا ناشئاً من قدرة حضرة يوسف u ومتعلقاً بقوّته المعنوية والباطنية لما خاف من تبدّلها إلى ثعبان ولما هرب منها (النمل/10، والقصص/31) أو لَعَلِمَ في يوم التحدي على الأقل أن عصاه ستظهر هذه المرة على نحو أكبر وأقوى مما ظهرت عليه من قبل وَلَمَا قَلق أو خشي أن يتمكن السحرة من النجاح في خداع الآخرين (طه/67-68)؛ وحتى في إرجاع هيئة الثعبان إلى هيئة العصا لم يقل الله: الآن أعد العصا إلى حالتها السابقة بالقدرة والاستطاعة التي وهبناك إياها بفضل عبوديتك وبإذننا بل قال: ﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ [طه/21]، حتى أن حضرة موسى u نفسه عندما رأى عمل سحرة فرعون لم يَقُلْ سأبطل سحركم بالقوة التي أعطاني الله إياها بل نسب فعل الإبطال إلى الله تعالى مباشرةً وقال: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ﴾ [يونس/81]. ولم يكن حضرة زكريا u يعلم مصدر الطعام الذي وجده عند مريم، قبل أن توضِّح له مريم -سلام الله عليها- ذلك (آل عمران/37). ورغم أن الله تعالى اصطفى آل عمران على العالمين، لم يكن أولياء مريم عليها السلام يعلمون أنّ الولد الذي ينتظرونه أثنى وليست ذكراً (آل عمران/36). ولم تتعرَّف مريم عليها السلام على ملاك الله الذي ظهر لها إلا بعد أن عرّفها بنفسه وقال لها إنه رسول ربها إليها (مريم/18)، ولم يكن حضرة عيسى u الذي تكلّم وهو في المهد قد عبد الله بَعْد، فأعطاه الله على إثر عبوديته وطاعته للحق وطيّه لمراحل العبودية والسلوك القدرة على الإعجاز والتصرّف في الطبيعة!! ([18]).
الحقيقة أن منبع الوحي والمعجزة واحد، والذي أنزل الوحي هو ذاته الذي أنزل المعجزة أيضاً، ومقدار تدخّل النبي o وشخصيته وإرادته وقدرته المعنوية في المعجزات، هو مقدار تدخّله في الوحي عينه، وبعبارة أخرى، لو كان لإرادة النبي o وقوته الروحية الباطنية دَخْلٌ في الوحي لكان لها دخل في المعجزة أيضاً، وإلا فلا.
بعد هذا التوضيح، لا بد أن نَعْرِض لادعاء الخرافيين ومغالطتهم بشأن كلمة «إذن» التي يفسّرونها دائماً بمعنى «الإذن الإلهي العام» !!
إن الإذن الإلهي العام هو ذلك الإذن الذي تتمتَّع به جميع الموجودات وتتمكَّن به من القيام بأعمالها العادية وتنفِّذُ إرادَتَها بواسطته وبحول الله وقوته. فالشيطان يوسوس للناس ويغويهم بإذن الله. والنبات ينمو بإذن الله. والحيوان يسير بإذن الله، والبشر - بما في ذلك الأنبياء- ينجزون أعمالهم - خيراً كانت أم شراً - بالإذن الإلهي العام. والذين يمارسون الرياضة الروحية يصلون إلى امتلاك قدرات عجيبة محيّرة بإذن الله وبالتدريج من خلال الرياضات المختلفة والتمرينات الكثيرة. والسحرة يصبحون سحرة بإذن الله وبتعلمهم السحر من الآخرين!([19]) وسحرهم يؤثر بإذن الله، وقس على هذا .
إن هذا الإذن العام معناه «مَلْءُ الفاعل من قدرة الله ورحمته»، وهذا أمر ذو طرفين بالنسبة إلى الإنسان، أي أن الإنسان بواسطة هذا الإذن يمكنه أن يقوم بعملٍ ما أو يترك القيام به، ولهذا السبب صار الإنسان مسؤولاً عن أفعاله التي يقوم بها بهذا الإذن الإلهي العام، لأنه يمكنه أن يستخدم هذا الإذن بصور مختلفة.([20])
أما «الإذن الخاص» فلا يتمتَّع به أحد إلا الأنبياء، ولهذا السبب ففي الإذن العام غالباً ما يُنسَب الفعل إلى فاعله المباشر والقريب، لا إلى الله تعالى، أما في الإذن الخاص، فلمَّا لم يكن لإرادة الأنبياء وشخصيتهم وقوتهم الروحية وَالمعنوية أي تدخُّل في إظهار المعجزات، نسب القرآن المعجزات مباشرةً إلى الله، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء/59]، وقوله: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ...﴾ [القمر/27]. ولم يقل إن صالحاً أتى قومه بالناقة. أو قوله تعالى عن داود u: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء/79]، ففي هذه الآية ينسب الله تعالى المعجزات إلى ذاته بكل وضوح ودون أي لبس أو إبهام، ويختم بقوله: إننا كنا نحن الفاعلين لها([21])، بل إنه تعالى أمر نبيَّه الكريم o أن يقول ردَّاً على المطالبين بالمعجزات: ﴿قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾ [الأنعام/37]، أي أنني - وأنا نبيٌّ مرسل - لست قادراً على فعل المعجزات التي تريدون، بل الله هو القادر على فعل ذلك، كي لا يشتبه الأمر على أحد ويظن أن للأنبياء أيُّ تدخُّل في صنع المعجزات ولا يغلو في حقهم بل يعتبر أن ظهور المعجزات على أيدي الأنبياء إنما ينشأ من الإذن الخاص وفعل الله المباشر.
إن «الإذن الخاص» الذي ترتبط به المعجزات غير «الإذن العام»، وليس للنبي أي تدخل في استخراجه «الإذن الخاص» ولا يمتلكه تماماً كما لا يمتلك الوحي الذي ليس للنبي o تدخلٌ فيه لا تنزيلاً ولا مضموناً، لهذا السبب نرى أن حضرة عيسى لا يتحدى بالعصا التي تتحول إلى ثعبان ولا بالإنجيل، وأن حضرة موسى لا يعلَم لغة الحيوانات ولا يشفي الأكمه (أي أعمى الولادة)، والنبي الأكرم أيضاً لا يفلق البحر فلقتين ولا يخرج يده بيضاء من غير سوء ولا يتكلَّم في المهد.
الآيات التالية تبين لنا «الإذن الخاص»: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [الرعد/38 وَغافر/78]، و﴿وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ [إبراهيم/11]. (والكلام ورد على لسان الأنبياء)
لا شك أنه ليس المقصود من الإذن في هذه الآيات «الإذن العام» لأن الإذن العام لا يختص بالرسل دون غيرهم، وسيكون من اللغو القول إن الأنبياء أيضاً لا يمكنهم أن يصنعوا الآيات دون إذن الله لأن غير الرسل أيضاً ينطبق عليهم هذا الأمر بالضبط. والملائكة يشملهم هذا الحكم أيضاً. بل المراد في تلك الآيات الإذن الخاص، وفي الواقع إن الآية مخالفة تماماً لمشرب الخرافيين وميلهم، فهي تقول إن الدرجات المعنوية والقوة الروحية الباطنية للنبي لا دخل لها في الإعجاز بل فعل المعجز يحتاج إلى الإذن الإلهي الخاص. بل إن الله تعالى أمر رسوله صراحةً أن يقول: لو كنت أملك علم الغيب أو أملك القدرة على صنع المعجزة لاستخدمت تلك القدرة قطعاً، كما نقرأ هذا المعنى في الآية 188 من سورة الأعراف التي مرت معنا قبل عدة صفحات، وكما تقول الآية التالي: ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام/58].
فهذه الآيات تفيد أن مثل هذه الأمور ليست بيد النبي، أي لا يملكها. وكذلك وطبقاً لآيات القرآن، لما كان النبيُّ o يواجه إعراض الكفار والمشركين وتوليهم عنه، كان يتمنَّى بشدَّة إظهار معجزة كي يهتدي قومه، ولكن بدلاً من ذلك كان ينزل عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام/35].
إن هذه الآية تفيد أنه رغم ميل النبي وإرادته لظهور المعجزة لم تكن المعجزة تتنزل عليه وَمِنْ ثَمَّ لم يكن لإرادة النبي أي تدخل في ظهور المعجزة. وبالطبع فإن معجزات حضرة عيسى (ع) التي جاءت بشكل متكرر مقيدة بالإذن الإلهي ليست استثناءاً من هذه القاعدة.
أيها القارئ! تأمَّل ما يلي معي قليلاً: كيف يمكن أن يقول كتاب الإسلام في موضع: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ([22]) لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج/73]، أو يقول: ﴿هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [لقمان/11]، أو يقول أيضاً: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [فاطر/40]، ويقول كذلك: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [الأحقاف/4].
وكيف يمكن أن يقول الإمام الصادق u: "قَالَ فِي الرُّبُوبِيَّةِ الْعُظْمَى وَالْإِلَهِيَّةِ الْكُبْرَى لَا يُكَوِّنُ الشَّيْءَ لَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا اللهُ وَلَا يَنْقُلُ الشَّيْءَ مِنْ جَوْهَرِيَّتِهِ إِلَى جَوْهَرٍ آخَرَ إِلَّا اللهُ وَلَا يَنْقُلُ الشَّيْءَ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ إِلَّا اللهُ"([23]). بل كان الإمامُ الصادقُ u يعتبرُ أهلَ التفويض، أي الذين كانوا يقولون: إنَّ النبيَّ o وعلياً (ع) يخلقان ويحييان ويميتان ويرزقان بإذن الله([24])، أعداءَ اللهِ([25]). ثم بعد ذلك كلِّه يقول كتاب الإسلام ذاته إن عيسى (ع) كان هو المؤثر في تبدّل تمثال الطير المصنوع من الطين إلى طير حقيقي وإيجاد الحياة فيه، أو في إحياء الأموات!!!
لو صح ذلك لكان للمخالفين أن يقولوا ردَّاً على الآية 16 من سورة الرعد المباركة التي تقول: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِـلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ [الرعد/16]: نعم إن عيسى (ع) قام بخلق ٍمشابهٍ لخلق الله، ونعم، لا يمكننا أن نميِّز بين الطير الذي يخلقه الله والطير الذي خلقه عيسى؟! و لَجَازَ لهم أيضاً أن يقولوا إجابةً عن الآية 11 من سورة لقمان والآية 40 من سورة فاطر والآية 4 من سورة الأحقاف: إننا ندعو عيسى مع الله لأنه هو أيضاً يخلق ويحيي!!
بناء على ذلك يجب على الخرافيين أن يُفَسِّروا الآيات المتعلقة بمعجزات عيسى (ع) كما فسَّرها الشيخ الطَّبْرَسِي رحمه الله وأمثاله في تفاسيرهم، كي يتفق كلامهم مع الآيات التي أوردناها أخيراً([26]). وأن يسألوا أنفسهم: لماذا اعتبر القرآن -حسب ادِّعائهم- عيسى (ع) هو بذاته الذي حوَّل تمثال الطير الطيني إلى طير حقيقي، في حين اعتبر أن صالحاً (ع) ليس له دَخْلٌ في إخراج الناقة من الصخرة، كما لم يعتبر داودَ (ع) متدخِّلاً في تسخير الجبال والطيور وجعلها تسبح؟! ويجب أن يسألوا أنفسهم أيضاً: لماذا يصرح القرآن بأن كل ما هو «من دون الله» أي ما سوى الله غير قادر على خلق ذبابة، ثم في الوقت ذاته ينسب -حسب ادِّعائهم-إلى عيسى نفسه خلق الطير، مع أن عيسى مهما علا مقامه فهو في النهاية ممن يصدق عليه أنه «من دون الله»؟!
ولهذا السبب كتب الشيخ الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» ذيل الآية 49 من سورة آل عمران المباركة يقول:
"وإنَّما وصل قوله: «بإذن الله» بقوله «فيكون طيراً» دون ما قبله لأن تصوير الطين على هيئة الطير والنفخ فيه مما يدخل تحت مقدور العباد، فأمّا جعل الطين طيراً حتى يكون لحماً وَدماً وخلق الحياة فيه، فمِمَّا لا يقدر عليه غير الله، فقال: «بإذن الله» ليعلم أنه من فعله تعالى وليس بفعل عيسى".
وقال الطبرسي أيضاً بشأن شفاء عيسى للمرضى:
"و إنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان".
وقال بشأن إحياء عيسى للموتى:
"وقوله تعالى: «وأحيي الموتى بإذن الله» إنما أضاف [عيسى] الإحياء إلى نفسه على وجه المجاز والتوسُّع ولأن الله تعالى كان يحيي الموتى عند دعائه".
وقال في تفسيره المذكور ذيل الآية 110 من سورة المائدة:
" قوله: «وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني» أي واذكر ذلك أيضاً إذ تصور الطين كهيئة الطير الذي تريد أي كخلقته وصورته، وسمَّاه خَلقاً لأنه كان يُقَدِّرُهُ، وقوله «بإذني» أي تفعل ذلك بإذني وأمري" " «بإذني» أي بأمري ومعناه أنك تدعوني حتى أبرىء الأكمه والأبرص، ونسب ذلك إلى المسيح لما كان بدعائه وسؤاله «وإذ تخرج الموتى بإذني» أي اذكر إذ تدعوني فأحيي الموتى عند دعائك وأخرجهم من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء، ونسب ذلك إلى المسيح لما كان بدعائه".
إضافةً إلى ذلك، نرى بعد آيتين من الآية المذكورة (أي في الآية 112 من سورة المائدة) أن الحواريين الذي كانوا من أقرب الناس إلى عيسى (ع) وكانوا أعلم الناس به وكانوا من تلاميذه الذين تعلَّموا على يديه، نراهم عندما أرادوا أن يطلبوا منه معجزةَ نزولِ المائدة لم ينسبوا المعجزة، حتى حسب الصورة الظاهرية، إليه (ع) ولم يعتبروا أنه له دخلاً في إنزالها بل قالوا: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ؟﴾ [المائدة/112]، فلم يقولوا: هل تستطيعُ أنتَ أن تنزِّل علينا مائدة من السماء.
لذا يجدر بنا أن نقتديَ بهؤلاء الحواريين ولا نغلُوَ في حق الأنبياء ولا ننخدعَ بروايات الغلاة والكذَّابين والمجاهيل، ولا نبيعَ كتاب الله لنشتري به روايات غير موثوقةٍ لا يُعتَمَد عليها، خاصةً إذا انتبهنا إلى هذه النقطة وهي أن كثيراً من الروايات الموجودة في كتبنا بما في ذلك كتاب «الكافي» -كما رأيتم حتى الآن وكما سترون في الصفحات القادمة- منقولة عن مجاهيل أو عن أتباع الفرق الضالَّة الذين هم أشخاص مطرودون في نظر الإمامية.
يقول الأخ المحقِّق الأستاذ «قلمداران»:
"لكن لا تزال هناك أخبارٌ وآثارٌ عديدةٌ لهم وجدت طريقها إلى ثنايا كتب حديث الشيعة الإمامية، التي اختلط فيها الحق بالباطل، وامتزجت فيها الآثار الباقية عن الأئمة الهداة - عليهم السلام - بأقاويل منقولة عن رجالات تلك الفرق، ولم يتم إلى يومنا هذا -مع الأسف الشديد- عملٌ جديٌّ شاملٌ لفرز الدخيل عن الأصيل وتمييز الموضوع عن الصحيح!
هذا علاوةً على أن كثيراً من رواة أخبار وأحاديث الشيعة الإمامية هم من أتباع تلك المذاهب الباطلة ذاتهم مثل الفَطَحِيَّة والوَاقِفِية والشَلْمَغَانيّة وحتى بعض أولئك الذين اشتهروا بأنهم من كبار أصحاب الأئمة، كانوا من قَبْلُ من أتباع بعض تلك المذاهب الباطلة وأمضوا فيها مدَّةً من حياتهم قبل أن يرجعوا إلى مذهب الإمامية وذلك مثل أبناء أعين وأبو خديجة والمعلّى بن خنيس وغيرهم. فإذا لم نتمسَّك بالقرآن الكريم ونرجع إليه ونجعله حكماً لتمييز الصحيح من الخطأ فإن عملية تفكيك وتفريق الأخبار والآثار التي رواها أولئك زمن اعتقادهم بمذهبهم السابق وتلك التي رووها بعد رجوعهم إلى مذهب الإمامية ستكون عمليّةً عسيرةً للغاية."([27]).
لكن ما يُؤْسَف له أن علماءَنا في القرون الأخيرة لما قرؤوا هذه الروايات في كتبهم المذهبية تعصَّبوا لها، وسعوا بكل شكل من الأشكال إلى الدفاع عنها وتمحُّل التأويلات لها مهما كانت بعيدة، ولم ينتبهوا إلا قليلاً إلى أن كثيراً من الأحاديث في كتبنا مروية من طرق غير الشيعة أو من طرق أشخاص مجهولين وأنه لا مبرِّر لهذه التوجيهات وهذا الدفاع الشديد عنها!([28]) نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى أن نتعلم أكثر من هداية القرآن.
لقد تبين لنا مما ذكرناه أعلاه موقف القرآن الكريم من مسألة العلم بالغيب وَالكرامات والمعجزات، وبهذا يمكننا أن ندرك أن الروايات التي تَنْسِبُ مثلَ هذه الأمور إلى الأئمة عليهم السلام ليست صحيحة ولا مقبولة، وقد وضعها أعداء الإسلام وَأتباع الفرق الضالَّة ودسَّوها في كتب الحديث.
والآن نواصل نقد بقية أحاديث من أصول الكافي:
([2]) كتب الأستاذ عالي القَدْر أخونا العلامة السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي - أيده الله تعالى - مطالب مفيدة جدًا حول هذا الموضوع في كتابه القيِّم «راهى بسوى وحدت اسلامي» [أي طريق نحو الوحدة الإسلامية]، ص 69 فما بعد، فأوصي جداً إخواني المؤمنين بقراءته.
([3]) طبقاً لما أورده الطبرسي في «مجمع البيان»: نزلت الآيات في بني أبيرق وكانوا ثلاثة إخوة بشر وبشير ومبشر وكان بشير يكنى أبا طعمة، فنقب أبو طعمة على عِلِّيَة [أي سقيفة] رفاعة بن زيد وأخذ له طعاماً وسيفاً ودرعاً، فاتَّهم بنو أبيرق يهوديَّاً يُقال له زيد بن السهين فجاء اليهودي إلى رسول الله وجاء بنو أبيرق إليه وكلموه أن يجادل عنهم، فَهَمَّ رسول الله أن يفعل وأن يعاقب اليهودي فنزلت الآية وتبيَّن كذب المدَّعين وبراءة المتَّهم!
ولا يخفى أن بعضهم قال إن بني أبيرق اتهموا مسلماً يدعى لبيد بن سهل وقال آخرون إن رجلاً من الأنصار وضع درعاً له أمانةً عند شخص ولما أراد أن يستردّ أمانته أنكر ذلك الشخص الأمانة ولما ترافعا إلى النبيِّ احتمل النبيُّ أن يكون المدّعي صادقاً فنزلت الآيات المذكورة.
([10]) بناء على كلام الشيخ الطبرسي هذا فإن معظم أشباه العلماء في زماننا الذين يعتبرون الإمام عالماً بالغيب ابتعدوا عن الدين. لا يخفى بالطبع أن المسترزقين بالدين المفرِّقين بين المسلمين عندما رأوا كلام الشيخ الطبرسي هذا لا يتوافق مع الخرافات التي هي أهم بضاعة يسترزقون بها، كتبوا في حاشية بعض طبعات تفسير مجمع البيان أموراً لا دليل عليها، [حاولوا فيها تأويل كلام الشيخ الطبرسي] وقد رددنا عليهم في كتابنا الحالي كما سيأتي لاحقاً وأثبتنا بطلان قولهم.
وأيضاً في «بحار الأنوار» للمجلسي (ج 25/ ص267 من الطبعة الجديدة) وفي كتاب «الاحتجاج» للطبرسي، وكتاب «إثباة الهداة» للشيخ الحر العاملي، روايةٌ لتوقيعٍ خرج من ناحية الإمام الثاني عشر، وفيه الجمل التالية:
"....... لَيْسَ نَحْنُ شُرَكَاءَهُ فِي عِلْمِهِ وَلَا فِي قُدْرَتِهِ بَلْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ ..................
يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ آذَانَا جُهَلَاءُ الشِّيعَةِ وَحُمَقَاؤُهُمْ وَمَنْ دِينُهُ جَنَاحُ الْبَعُوضَةِ أَرْجَحُ مِنْهُ وَأُشْهِدُ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَكَفَى بِهِ شَهِيداً وَمُحَمَّداً رَسُولَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَأُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ كُلَّ مَنْ سَمِعَ كِتَابِي هَذَا أَنِّي بَرِيءٌ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّا نَعْلَمُ الْغَيْبَ. ...........". انتهى.
وأقول: إن الذي يثير العَجب حقاً، هؤلاء المشايخ الذين يظهرون إيمانهم بالإمام الثاني عشر، ولكنهم لا يقبلون الكلام المروي عنه!
([13]) يذكر العالم المحترم جناب الأستاذ «قلمداران» رحمه الله في كتابه «شاهراه اتحاد» ص65 فما بعد، عدداً من هذه الخصائص التي نُسِبَتْ في بعض الروايات إلى الأئمة [التي تفوق صفات البشر بل صفات الأنبياء]، فيقول: ".... كالأحاديث التي تصف علم الأئمة عليهم السلام بأنهم: "يعلمون ما كان وما يكون وأنهم لا يخفى عليهم شيء"، وأنهم: "يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل". وأن عند كل منهم صحيفة خاصة من الله تعالى يؤمر بالعمل بها، وأنهم يأتيهم الملاك ويسمعون صوته وإن كانوا لا يرونه، وأن روح القدس الذي يكون للنبي ينتقل بعده للإمام. وأن: "أعمال العباد تُعْرَض عليهم في الصباح والمساء..". وأن الله خلقهم من نور عظمته وخُلِقَتْ أبدانُهُم من طينةٍ مخزونةٍ لم يُخْلَقْ منها أحد إلا الأنبياء". وأن للإمام عشر علامات: يولد مطهَّراً مختوناً وإذا وقع على الأرض وقع على راحته رافعا صوته بالشهادتين، ولا يجنب، تنام عينيه ولا ينام قلبه، ... ويرى من خلفه كما يرى من أمامه، ونجوُهُ [أي بُرازُهُ] كرائحة المسك والأرض موكلة بستره وابتلاعه". وأن: "الإمام لا يخفى عليه كلام (لغة) أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة ولا شيء فيه الروح..". وأنهم يتكلمون بجميع الألسنة، وأن الأئمة يطبعون الحصاة بخاتمهم فتنطبع. (انظر الكافي، ج1، ص346 و347 ، الحديثان 3 و 4).
([17]) الأستاذ الشيخ جعفر سبحاني، نيروى معنوى پيامبران [أي القوة المعنوية للأنبياء]، نشر قَدْر، ص60 فما بعد.
([18]) اخترع الخرافيون كلاماً ليعطوا لإرادة النبي دَخْلاً على نحو من الأنحاء في العمل المعجز والخارق فقالوا: إن الإنسان في ظل عبوديته الصادقة لِـلَّهِ، لا يغدو بدنه فقط خاضعاً لإرادته ولا يصبح مسيطراً على جسمه فحسب، بل يصبح عالم الطبيعة أيضاً مطيعاً للإنسان، وفي ظل القوة والقدرة التي يكتسبها العبد من تقرّبه إلى الله يتصرّف بإذن الله تعالى في الطبيعة ويكون مبدأ لسلسلة من المعجزات والكرامات، وفي الحقيقة يمتلك القدرة على التصرّف في عالم التكوين والسيطرة عليه. (الشيخ جعفر السبحاني، القوّة المعنوية للأنبياء، ص45). أو يقولون: إن روح الإنسان ونفسه من ناحية قوّتها وتأثيرها في عالم الطبيعة تصل إلى رتبة تستطيع فيها بإرادتها ورغبتها أن تحول الطبيعة من صورة إلى صورة أخرى!! كأن تبدِّل الهواء مثلاً إلى غيم ومطر، أو تظهر الرياح الشديدة والأعاصير المهلكة والقاتلة، أو تشفي المرضى، أو تجعل السباع المفترسة تخضع لأمرها. (المصدر نفسه، ص46). هذا في حين أنه لو كان الأمر كما يدّعون لوجب ألا يمرض الأنبياء، وهذا مخالِف للواقع لأننا نعلم أن الأنبياء كانوا يمرضون ولذلك نقرأ أن حضرة إبراهيم u يقول: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء/80], ولم يستطع حضرة يعقوب u أن يشفي عينيه ويرد إليهما البصر، فكيف يمكنه أن يشفي المرضى الآخرين؟ وبعض أصحاب النبي o مرضوا بعد هجرتهم إلى المدينة ولم يستطِع النبي الأكرم o الذي حاز بإذن ربه على أعلى درجات العبودية أن يشفيهم بقوّته الباطنية والمعنوية وإرادته، بل قد شفَوا وتعافَوا بالطرق الطبيعية والعادية أي بالإذن الإلهي العام، وإذا كان من الممكن أن تخضع السباع المفترسة لأمر من وصلوا إلى أعلى مراتب العبودية لَمَا لَدَغَت العقرب يدَ النبي الشريفة o (وسائل الشيعة، ج 9، ص 166، باب 81، حديث 2).
([19]) أحد الفروق بين المعجزة وأمور مثل السحر والشعوذة وأعمال من يمارسون الرياضة الروحية هي أن السحر والرياضات الروحية تحتاج إلى تمرين وتدرّج خلافاً للمعجزة التي لا تحتاج إلى تعلُّم وتمرّن، فالمعجزة تماثل «الوحي» في أن الذي يأتي به لا يحتاج إلى تعلّم وتمرين.
([20]) لهذا السبب قال تعالى: ﴿كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء/20] أي أن جميع الخلق يأخذون الإذن والمدد منا في جميع أفعالهم.
([21]) في حين أنه لو تم فعل تلك الأعمال الخارقة بـ«الإذن العام»، أي كان الأنبياء هم الفاعل القريب والمباشر لها، لما كان هناك من ضرورة لقول الله تعالى "إنا كنا نحن الفاعلين لها".
([24]) أي ما يشبه عقيدة الخرافيين في زماننا، الذين يعتبرون أنفسهم زوراً شيعة عليّ (ع)! في حين أن الموحِّدين فقط هم الشيعة الحقيقيون لذلك الإمام الجليل عليه السلام.
([25]) جاء في تفسير «نور الثقلين» نقلاً عن كتاب «اعتقادات إمامية» للشيخ الصدوق:
"وروي عن زرارة أنه قال: قَالَ قُلْتُ لِلصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلامِ إِنَّ رَجُلًا مِنْ وُلْدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَبَإٍ يَقُولُ بِالتَّفْوِيضِ! فَقَالَ: وَمَا التَّفْوِيضُ؟ قُلْتُ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا فَفَوَّضَ إِلَيْهِمَا فَخَلَقَا وَرَزَقَا وَأَمَاتَا وَأَحْيَيَا. فَقَالَ (ع): كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ إِذَا انْصَرَفْتَ إِلَيْهِ فَاتْلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الرَّعْدِ ﴿أَمْ جَعَلُوا لِـلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (الرعد/16) فَانْصَرَفْتُ إِلَى الرَّجُلِ فَأَخْبَرْتُهُ فَكَأَنِّي أَلْقَمْتُهُ حَجَرَاً، فَقَالَ: وَكَأَنَّمَا خَرِسَ". انتهى. (تفسير نور الثقلين، تصحيح الحاج سيد هاشم رسولي محلاتي، ج 2، ص 492)
وكذلك نجد في دعاء «يستشير» خطاب لله بعبارة: "كَوَّنْتَ كل شيء". ونقرأ في دعاء «الجوشن الكبير» المشهور في الفقرة 90 و94 منه "يا من لا يدبر الأمر إلا هو..... يا من لا يحي الموتى إلا هو..... يا منشئ كل شيء ومحوله، يا محي كل شيء ومميته".
إذن، التكوين وإيجاد الحياة في الموجودات بيد الله وحده فقط، وأصلاً كيف للرسول والإمام الذين نالوا حياتهم من الله ولم يُكَوِّنُوا أنفسَهم بأنفسهم أن يخلقوا ويكوِّنُوا الآخرين؟!