4. التعرُّف على كتاب «الكافي»
اعلم أن كتاب «الكافي» يحظى بكثير من الثناء والتمجيد في مجتمعنا، فبعض العلماء يُشبِّهونه بالشمس وسائر كتب الحديث بالأقمار. ولو رجعتم إلى الصفحة 26 فما بعد من مُقدِّمة المُجلَّد الأوَّل من «الكافي» يُمكنكم أن تُدركوا إلى أي حدّ بُولغ في مدح كتاب الكُلَيْنيّ. من جملة ذلك قول والد العلامة المجلسي المرحوم «محمد تقي المجلسي»:
"وَالحَقُّ أنّه لم يكن مثله، فيما رأيناه في علمائنا، وكلُّ من يتدبَّر في أخباره، وترتيب كتابه، يعرف أنه كان مؤيداً من عند الله تبارك وتعالى، جزاهُ اللهُ عنِ الإسلامِ والمسلمين أفضل جزاء المُحْسِنين " ([1]).
ويقول الميرزا «محمد حسين النوري» مؤلف كتاب «مستدرك الوسائل»:
"كتاب الكافي، أحد الكتب الأربعة التي عليها تدور رحى مذهب الفرقة الناجية الإمامية. ...........، وكتاب الكافي بينها [أي بين سائر كتب الحديث] كالشمس بين نجوم السماء.....".
ثم ينقل الميرزا النوري ثناء عدد من العلماء على الكتاب ومن جملة ذلك ينقل قول الشيخ المفيد: "كتاب الكافي هو أجلّ كتب الشيعة، وأكثرها فائدة"، أو كلام الشهيد الأول الذي قال: "كتاب الكافي في الحديث، الذي لم يعمل للإماميّة مثله". ثم يذكر كلام السيد بن طاوس الذي يحتمل أن يكون كتاب الكافي قد حظي برؤية الإمام (ع) له، [لكونه أُلِّف في زمن الوكلاء وأنه من المحتمل أن يكون الكتاب قد عُرِضَ على أحدهم، ونال إمضائه وحكمه بصحّته، وَهو عين إمضاء الإمام (عليه السلام)] لكنه يستدرك قائلاً:
"وهذا وإن كان حَدْسَاً غير قطعي يصيب ويخطئ، لا يجوز التشبّث به في المقام".
ثم كتب الميرزا النوري قائلاً:
"فظهر أنّ غرض الكُلَيْنِيّ (رحمه الله) فيه لم يكن كالغرض من جملة المؤلّفات، كجمع ما ورد في ثواب الأعمال، أو خصال الخير وَالشرّ، أو علل الشرائع، وغيرها، بل للأخذ وَالتمسّك به، وَالتديّن وَالعمل بما فيه، وَكان بمحضره في بغداد يسألون عن الحجّة (عليه السلام) بتوسّط أحد من النّواب، عن صحة بعض الأخبار وَجواز العمل به، وَفي مكاتيب محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إليه (عليه السلام) من ذلك جملة وافرة، وَغيرها، فمن البعيد غاية البعد أنّه (رحمه الله) في طول مدّة تأليفه- وَهي عشرون سنة- لم يعلمهم بذلك وَلم يعرضه عليهم، مع ما كان فيما بينهم من المخالطة وَالمعاشرة بحسب العادة."
ولكنه استدرك قائلاً:
"وليس غرضي من ذلك تصحيح الخبر الشائع من أنّ هذا الكتاب عُرِض على الحجّة (عليه السلام) فقال: «إنّ هذا كاف لشيعتنا»، فإنّه [خَبَرٌ] لا أصل له، وَلا أثر له في مؤلّفات أصحابنا، بل صرّح بعدمه المحدّث الأسترآبادي الذي رام أن يجعل تمام أحاديثه [أي أحادث الكافي] قطعيّة، لما عنده من القرائن التي لا تنهض لذلك، وَمع ذلك صرّح بأنّه لا أصل له..."([2]).
ويقول المرحوم الممقاني مؤلف «تنقيح المقال» أيضاً بشيء من التردُّد: "يُقال عُرض على القائم (ع) فاستحسنه وقال: كافٍ لشيعتنا"([3]).
لكن الكُلَيْنِيّ نفسه لم يُشِرْ أبداً إلى هذا الموضوع، مع أنه لو كان قد عرض كتابه على الإمام فعلاً لما امتنع أبداً عن ذكر هذه الواقعة لأنه كان يعلم أن ذكر هذه المسألة سيزيد من موثوقية كتابه ألف ضعف لدى الإمامية.
ويقول العلامة المجلسي أيضاً في كتابه «مرآة العقول»:
"وأما جزم بعض المُجازفين بكون جميع الكافي معروضاً على القائم (ع) لكونه في بلدة السفراء، فلا يخفى ما فيه على ذي لُبٍّ"([4]).
لاحظوا أن العلامة المجلسي اعتبر القائلين بمثل ذلك الأمر (عرض الكافي على الإمام) مُجازفين. لاسيما أن قائل ذلك الكلام لم يأتِ بأي سند أو دليل في أي كتاب على دعواه، كما لم يذكر اسم الراوي الذي روى تلك الحادثة. وفي نظرنا إن من نشر هذه المقولة كان يهدف إلى إضفاء العظمة والأهمية على كتاب «الكافي» وإلا فإن علماء الشيعة الكبار كشيخ الطائفة الطوسي والشيخ المُفيد والشيخ الصدوق والعلامة الحلي و....... لم يدَّعوا مثل هذا الادِّعاء بشأن كتاب الكُلَيْنِيّ.
كتب السيد المرتضى علم الهدى الذي كان من كبار علماء الشيعة في عصره في إحدى رسائله الموسومة بـ «جوابات المسائل الطرابلسيات [الثالثة]» في المسألة الثالثة عشر [حول الحديث المروي في الكافي في قُدرة اللهِ تعالى] ما نصه:
"اعلم أنه لا يجب الإقرار بما تضمنته الروايات، فإن الحديث المروي في كتب الشيعة وكتب جميع مخالفينا، يتضمن ضروب الخطأ وصنوف الباطل، من محال لا يجوز أن يُتَصَوَّر، وَمِنْ باطلٍ قَدْ دَلَّ الدليلُ على بطلانه وفساده، كالتشبيه والجبر والرؤية والقول بالصفات القديمة. وَمَنْ هذا الذي يُحصي أو يَحصِرُ ما في الأحاديث من الأباطيل؟! وَلهذا وجب نقد الحديث بعرضه على العقول، فإذا سَلِمَ عليها عُرِضَ على الأدلَّة الصحيحة، كالقرآن وما في معناه، فإذا سَلِمَ عليها جُوِّزَ أن يكون حقّاً والمخبرُ به صادقَاً............
وهذا الخبر المذكور بظاهره يقتضي تجويز المحال، المعلوم بالضرورات فساده، وإن رواه الكُلَيْنِيُّ (رحمهُ اللهِ) في كتاب التوحيد، فكم روى هذا الرجل وغيره من أصحابنا (رحمهم اللهُ تعالى) في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة، والأغلب الأرجح أن يكون هذا خبراً موضوعاً مدسوساً."([5]).
كما قال في المسألة الخامسة [الرجوع إلى الكافي وغيره من الكتب المعتبرة] من رسالته «جوابات المسائل الرسية [الأولى]» ما نصُّهُ:
"وأما الإلزام لنا أن لا تكون في تصنيف هذه الكتب [أي كتب الرواية كالكافي وغيره] فائدة إذا كان العمل بها غير جائز، فليس بصحيح، لأن مصنف هذه الكتب قد أفادنا بتصنيفها وحصرها وترصيفها وجمعها مذاهبه التي يذهب إليها في هذه الأحكام، وأحالنا في معرفة صحتها وفسادها على النظر في الأدلة ووجوه صحة ما سطره في كتابه."([6]).
ومن العلماء المُتأخِّرين أيضاً نجد «الميرزا عبد الله بن عيسى الأفندي التبريزي» صاحب «رياض العلماء وحياض الفُضلاء» لم يقبل بذلك الادِّعاء.
ومن المراجع المُعاصرين لنا كتب آية الله «أبو القاسم الخوئي» بشأن عدم القطع بصدور روايات الكافي جميعها عن الأئمة عليهم السلام يقول:
"ولا شك في أن [الشيخ] المفيد والشيخ [الطوسي] كانا يتعاملان مع روايات الكافي والفقيه وغيرها من الروايات المودعة في الكتب والأصول معاملة الخبر غير القطعيّ، فإن كان راويها من الضعفاء أو كانت الرواية مرسلة طرحاها، سواء كانت الرواية مروية في الكافي أو الفقيه أو غيرهما من الكتب والأصول المعروفة والمشهورة. وليت شعري إذا كان مثل المفيد والشيخ [الطوسي]- قُدِّس سِرُّهُما -، مع قرب عصرهما، وسعة اطلاعهما، لم يحصل لهما القطع بصدور جميع هذه الروايات من المعصومين عليهم السلام، فمن أين حصل القطع لجماعة متأخرين عنهما زماناً ورتبة؟!"([7])
إلى أن يقول:
"وعلى الجملة: إن دعوى القطع بعدم صدور بعض روايات الكافي عن المعصوم عليه السلام - ولو إجمالاً - قريبةٌ جداً، ومع ذلك كيف يصح دعوى العلم بصدور جميع رواياته عن المعصوم عليه السلام؟ بل ستعرف - بعد ذلك - أن روايات الكتب الأربعة ليست كلها بصحيحة،فضلاً عن كونها قطعية [الصدور]"([8]).
وأقرَّ العالم اللبناني المشهور «هاشم معروف الحسني» في كتابه «دراسات في الحديث والمُحدِّثين» أن أخباريي الشيعة أغرقوا وبالغوا بشأن الثقة في روايات «الكافي»، ولكن سائر الأصوليين ومُحقِّقي الشيعة منذ زمن الشيخ المُفيد وحتى زماننا انتقدوا في كتبهم كثيراً من روايات «الكافي» وناقشوها سنداً ومتناً.
هذا ومن الجدير بالذكر أن الكُلَيْنيَّ نفسَهُ كتب في مقدِّمة كتابه الكافي مخاطباً صديقه الذي كان قد طلب منه أن يؤلِّف كتاباً، يقول:
"وقلتَ: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع [فيه] من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام والسنن القائمة التي عليها العمل، وبها يؤدي فرض الله عزَّ وجلَّ وسنة نبيه صلى الله عليه وآله..." ([9]).
ثم قال مجيباً عما طلبه صديقه منه:
"وقد يسَّر اللهُ - وله الحمد - تأليف ما سألتَ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيْتَ"([10]).
من هذا يتبيَّن أن الكُلينيَّ كان يعتبر كتابه كافياً لصديقه.
ولا شك أن دعايات المُتكسِّبين بالمذهب حول هذا الكتاب أثَّرت تأثيرها المطلوب وأنا أتذكر أن أحد المُجتهدين قال لي يوماً: إن أحاديث الكافي جميعها صحيحةٌ ومقبولةٌ وكلُّ من يقول غير ذلك فهو شخص مُغرض، فقلت ردَّاً عليه: إن كنت تؤمن أن أحاديث هذا الكتاب جميعها مقبولةٌ وموثوقة فلماذا لا تُصبح ثلاثة عشر إمامياً؟ لأنه في المُجلَّد الأول من الكافي، في الباب 183 (= باب ما جاء في الاثني عشر) توجد عدّة روايات مفادها أن عدد الأئمة ثلاثة عشر إماماً!!([11]) فقبل كلامي وقال: لم يسبق أن رأيت هذه الروايات!!
من هذا يتبيَّن أن بعض السادة العلماء إنما يحكمون على صحة ما في الكافي استناداً إلى المشهور الرائج بين المشايخ لا إلى الدراسة الكاملة لكل أحاديث الكافي!
وأياً كان الأمر، إن وجود مثل هذه الروايات في الكافي يُثبت أنه لم يُشْرف على تدوين كتاب الكافي أيُّ عالم ذي معرفةٍ جيِّدَةٍ بالقرآن الكريم فضلاً عن أن يكون الإمام قد أشرف على تدوينه، وإلا لما سكت عن كثير من رواياته؛ لأن أيَّ رجلٍ مُطَّلعٍ على المعارف الإسلامية لو رأى كتاب الكافي قبل انتشاره بين الناس لكان قد ذكَّر الكُلَيْنِيّ أو نبَّهه - على الأقل- بشأن روايات الثلاثة عشر إمام هذه، وغيرها من الأغلاط والأخطاء!
وعلى كل حال، وكما قلنا، لقد شاع بين كثير من الشيعة، حتى بين أهل العلم، أن كتاب الكافي من أوثق كُتب الحديث، ولذلك نال الكتابُ ثقة علماء هذا المذهب واحترامهم، ومن لم يقرأ هذا الكتاب بنفسه فقد يتصور أن رواته كلَّهم موثوقون وقد لا يحتمل أن يحتوي على أمور مُتناقضة يُضادُّ بعضها بعضاً، وأمور مُخالفة للقرآن والعقل، ولكن إذا قام شخص بقراءة هذا الكتاب بتمعُّن ودون تعصّب، لأدرك أنه ينطبق عليه مقولة: «رُبَّ مشهورٍ لا أصل له»!
([1]) أصول الكافي، تحقيق محمد جعفر شمس الدين، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1311 هـ. ق./1990م، مقدِّمة المحقق، ج 1، ص 18. وقال عن مصدر هذا الاقتباس: "شرح مشيخة من لا يحضره الفقيه، الورقة 267". انتهى. (المُتَرْجِمُ)