206. بَابُ الْإِشَارَةِ وَالنَّصِّ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ (ع)

طبقاً لما أورده أخونا الأستاذ الفاضل المرحوم قلمداران في كتابه (شاهراه اتِّحاد، ص 287)، نقلاً عن كتاب «المقالات والفرق» تأليف سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي (ت 301 هـ)، وكتاب «فرق الشيعة» تأليف الحسن بن موسى النوبختي (ت ما بين 300 و310 هـ). افترق الشيعة بعد وفاة حضرة العسكري (ع) إلى خمسة عشر فرقة كلها يدََّعي أنه من أتباع الإمام الحسن العسكري، ومنهم الفرقة التي يؤيدها الكُلَيْنِيّ ويدافع عنها.  لقد ذكر الكُلَيْنِيّ أحاديث هذا الباب لإثبات وجود «مهديٍّ» هو الابن الصلبي للحسن العسكري وفي نظرنا جميع ما أورده  من أحاديث ضعيف لا يُعتمد عليه.

ولكن قبل أن أبدي رأيي في أحاديث هذا الباب لا بد أن أذكِّر أن كاتب هذه السطور لا يعتقد بالمهدي ابن حضرة العسكري، وينكِر ولادة مثل هذا الشخص، ولكنني لا أقصد هنا أبداً إبداء وجهة نظري بشأن مصلح قد يظهر في المستقبل ويكون من ذرية بني هاشم وذرية النبيّ الأكرم J ويؤدي خدمات جليلة للإسلام، إلا أنني أذكِّر أنه لم تأتِ في القرآن الكريم أي إشارة إلى مثل هذا الشخص، والأحاديث التي تُشاهَد في كتب أهل السنة عن هذا الشخص إن لم تكن موضوعة فإنها تُشير إلى شخص آخر غير الابن الصلبي لحضرة العسكري ولا يمكن أن نطبّقها عليه إلا إذا أردنا أن نخدع العوامّ ونتكسّب بالدين!([1])

إحدى مشاكل أحاديث هذا الباب هي تلك المشكلة ذاتها التي واجهها مصنِّعو الأئمَّة بعد وفاة الإمام الرضا (ع). كان حضرة الجواد وحضرة الهادي طفلَين غير بالغَين عندما تُوُفِّي أبواهما، ولو افترضنا وجود ابنٍ لحضرة العسكري أيضاً فإن هذا الابن المُفْتَرَض كان له من العمر خمس سنوات على أقصى حد عند وفاة أبيه الكريم! وهنا لا بد أن ننتبه إلى النقاط التالية:

أولاً: إن أمر زعامة الأمة الإسلامية وقيادة شؤونها لا يجوز أن يُقال فيه إن زعيم المسلمين وأسوتهم وصل إلى هذا المنصب، منصب الإمامة، في سنّ الخامسة أو السابعة من عمره أو أنه غاب عن الأنظار، ونحو ذلك من الكلام.

ثانياً: قال تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء/6]. فإذا لم يعتبر الله تعالى الطفل غير البالغ صالحاً للتصرُّف في أمواله وإدارتها، فكيف يعتبره صالحاً لإرشاد الأمة وإدارة دفّة أمورها؟!

وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء/7]. بناءً على ذلك، فإن الطفل الصغير وغير المُكَلَّف ليس رجلاً حتى يصحّ أن يكون قائدَ الأمَّة وزعيمَها.

تشبّث بعض الغلاة - هروباً من هذا الإشكال وبهدف أن يثبتوا أنّ الأئمَّة كانوا يعلمون كلَّ شيء في طفولتهم - بقصة حضرة يحيى الذي قال تعالى عنه: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾  [مريم/12]، فقاسوا حضرات الجواد والهادي عليه!

وبطلان هذا القول واضح لأنه: أولاً: أنتم لا تقبلون بالقياس وتذمّون الذين يعملون به! ثانياً: قياسكم هذا قياس مع الفارق لأنكم قستم النبي على غير النبي. ثالثاً: لو رأيتم في كتب اللغة ومعاجمها أنّ من معاني «الصبيّ»: الطفل، فلا تتجاهلوا أن أهل اللغة قالوا أيضاً: إن «الصبيّ» هو الطفل الذي دون الفتى عُمْراً، وهو «الغُلام» أيضاً. بل ذكروا أيضاً أن «الصبيّ» يُقال للتلميذ الذي يتعلَّم لدى أستاذه حرفةً. لذا نسأل: بأي دليل تقولون إن حضرة يحيى (ع) لما آتاه الله الحكمة لم يكن صبياً يافعاً في آخر سنوات الصبا وبداية الشباب، بل كان عمره 3 أو 5 أو 7 سنوات فقط؟! لأن الإنسان ذي الثلاث سنوات من العمر أو الخمسة طفلٌ. صحيح أنّه يمكن أن يُقال لكل طفلٍ صبيٌّ، ولكن لا يمكن أن يُقال لكل صبيٍّ طفلٌ (كل جوزة كروية وليس كل شيء كروي جوزة).

رابعاً: لو انتبهنا إلى الآية 12 من سورة مريم المباركة لأدركنا بوضوح أن القرآن استثنى حالة يحيى عليه السلام، ولهذا السبب صرَّح "أننا آتيناه الحكم صبيّاً"، ولم يقل آتيناه الحكم طفلاً (فتأمَّل)، وسبب تصريحه بذلك الأمر أن يحيى كان شخصاً استثنائياً فذَكَره القرآنُ بوصفه معجزةً من جانب الله تعالى وإلا لما كان هناك من ضرورة أو أهمية لبيان السن الذي أوتِيَ فيه الحكمة، كما نرى أن الله لم يذكر هذا الأمر في حق الأنبياء الآخرين. إن رب العالمين فاعل مختار وكما يمكنه أن يعطي النُّبُوَّةَ لبعض عباده في سنّ الكهولة يمكنه أيضاً أن يعطيها لبعض عباده في سن الصِّبا. لكن الأصل يبقى ما جاء في الآية 6 من سورة النساء. ولو كان هناك استثناء آخر من هذا الأصل غير حضرة يحيى (ع) لأشار إليه القرآن قطعاً، لأن الله تعالى لم يمتنع عن ذكر هذا الاستثناء المتعلّق بالأمم السابقة، فلو كان هناك شخص بين زعماء الأمّة المنصوبين من الله سيظهر ويكون فيه هذا الاستثناء لأشار إليه القرآن، لأن ذِكْرَهُ أهم وأكثر فائدة للمسلمين من ذِكْرِ حضرة يحيى عليه السلام وأكثرُ ضرورةً لهداية المسلمين وعدم وقوع الاختلاف بينهم.

خامساً: كان نيل الحكمة والنُّبُوَّة في أيام الصبا معجزةً لحضرة يحيى عليه السلام، وكما قلنا سابقاً، لا يمكننا أن ننسب معجزةَ كلِّ نبيٍّ إلى الأنبياء الآخرين دون دليل يثبت ذلك، فمثلاً لا يمكننا أن نقول إن حضرة موسى كلَّم الناس في المهد بدليل أن حضرة عيسى فعل ذلك، كما أنه لا يمكننا أن نقول إنَّ عصا عيسى تحوَّلت إلى ثعبان لأن عصا موسى تحولت ثعباناً، أو نقول إن النبيّ الأكرم J أصبح نبياً في طفولته لأن حضرة يحيى بُعِثَ وهو صبي!! إضافةً إلى ذلك، فإن ما تفعلونه ليس إثبات معجزة نبيٍّ لنبيٍّ آخر بل إثبات معجزة نبيٍّ لشخص ليس بنبيٍّ!

سادساً: كما قلنا سابقاً ليس نقاشنا هنا حول «إمكان» هذه القضية، بل حول «وقوعها وتحققها فعلاً» في غير مورد حضرة يحيى (ع).

نعم، بعد هذه المقدمة نقول: يشتمل هذا الباب على ستة أحاديث، لم يُبْدِ المَجْلِسِيّ رأيه حول الحديث الأول واعتبر الحديث 2 صحيحاً والأحاديث 3 و4 و5 ضعيفةً والحديث 6 مجهولاً. ولم يُصحِّح الأستاذ البِهْبُودِيّ أيَّاً من أحاديث هذا الباب سوى الحديث الثاني فقط. وكما قلنا، إن الحديث الحادي عشر في الباب السابق يبطل جميع أحاديث هذا الباب.

ß الحديث 1 - راويه «محمد بن علي بن بِلال» الذي عدّه علماء الرجال ملعوناً هو والشلمغاني، وذلك لأنه كان يجمع من الناس أموالاً شرعية ثم ادّعى البابيّة وأكل الأموال كلها، أي كما فعل «زياد بن مروان القندي»([2]) ونظائره.

ß الحديث 2 - مرويٌّ عن «أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري»، الذي لم يعتبره النجاشي صاحب كتاب ورواية وقال عنه إن رواياته تدل على ارتفاع في القول. وقال الأستاذ البِهْبُودِيّ أيضاً موضِّحاً كلام النجاشي:

"ومعنى كلامه هذا - وهو الحقّ الصريح - أن الروايات التي تدلُّ على موقعه وجلالته عند هؤلاء الأئِمَّة، إنما هي روايات رواها أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري نفسه لا يشهد على ذلك روايات غيره! فرواياته إن كانت مكذوبة عليه، فهو. وإلا فرواياته تدل على أنّه كان مرتفع القول في الأئمَّة، وهذا قَدْحٌ فيه وفي رواياته. ولكن الظاهر من تاريخ حياته أن الرجل لم يكن صاحب حديثٍ ولا روايةٍ وكتابٍ، بل كان من الرجال السائسين المعاشرين لأبناء الدولة يتآمر تارةً مع السلطان في أمور بني هاشم والعلويين، وتارة مع المخالفين في القيام والثورة عليهم، ولذلك أخرجوه إلى سامراء سنة 252 وبقي فيها حتى مات سنة 261.....

وعندي أن كتابه ملصوق به، ولذلك لم يروه الثقات الأثبات وإنما يرويه الرجال الضعفاء كإسحق بن محمد النخعي وسهل بن زياد الآدمي ومحمد بن الوليد شباب الصيرفي وأحمد بن أبي عبد الله البرقي، وِجادةً([3]). ولو قلنا بأن كتابه صحيح لدلَّت رواياته على القدح العظيم في نفسه وسقط الاحتجاج بحديثه مطلقاً كما صرَّح بذلك أبو عمرو الكِشِّيّ في كلامه المتقدِّم"([4]).

ومتن الحديث معلولٌ أيضاً، إذْ جاء فيه أن «أبا هاشم» سأل حضرة العسكري (ع): "هَلْ لَكَ وَلَدٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: فَإِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ فَأَيْنَ أَسْأَلُ عَنْهُ؟ قَالَ: بِالْمَدِينَةِ!!"، في حين أن الإمام الثاني عشر غاب في سامراء، ولم يسكن المدينةَ أبداً!

ß الحديثان 3 و4 - حديثان ضعيفان كرَّرهما الكُلَيْنِيُّ في الحديثين 12 و 14 من الباب التالي (الباب 134).

ß الحديث 5 - راجعوا بشأن هذا الحديث ما ذكرناه من أمور في الباب 135. وقد كرر الكُلَيْنِيّ هذا الحديث الضعيف في الحديث الأول من الباب 182.

ß الحديث 6 - يقول هذا الحديث: ... عَنْ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ [شخصان مجهولان] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَبْدِيِّ مِنْ عَبْدِ قَيْسٍ [شخص مهمل] عَنْ ضَوْءِ بْنِ عَلِيٍّ الْعِجْلِيِّ [ شخص مهمل أيضاً] عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ سَمَّاهُ [ولم يذكر الرواة اسمه!].

فالحاصل أن هذا الحديث روايةُ مجهول عن مجهول عن مجهول عن مجهول أنه رأى الابن الرضيع لحضرة العسكري (ع)!!

بالله  عليكم هل يُسَمَّى هذا حديثاً؟!!  صدق من قال: الغريق يتشبَّث بكل حشيش!

وقد كرر الكُلَيْنِيّ متن هذا الحديث الساطع مرة ثانية في الباب 182 الحديث الثاني.

تذكير: أورد الشيخ المفيد الحديثين 3 و4 في كتابه «الإرشاد»، ج 2، ص 351 و353



([1])   راجعوا كتابي «بررسى علمى در احاديث مهدى» [تحقيق علمي في أحاديث المهدي].

([2])   راجعوا ما ذكرناه بشأنه في الصفحات 245، 537، و 839 من الكتاب الحالي.

([3])   راجعوا حاشية الصفحة 281 من الكتاب الحالي.

([4])   الشيخ محمد باقر البهبودي، معرفة الحديث، مركز انتشارات علمى و فرهنگى، ص 251.