113. بحثٌ حول مقام النبوَّة والإمامة والعلاقة بينهما

اعلم أن مثل هذه الأحاديث أدَّت إلى وقوع علمائنا في مغالطة - كما تقرؤون ذلك في الكتب التي تُؤلَّف في زماننا أو تسمعون ذلك من المنابر أو الإذاعة - إذْ يدَّعون أن حضرة إبراهيم u بعد أن خرج ناجحاً مرفوع الرأس من الامتحانات العظيمة والابتلاءات الكبيرة التي ابتلاه الله بها، اختير لمقام الإمامة وخوطب بقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا...﴾  [البقرة/124]، ومن الواضح أنه كان يوحى إلى إبراهيم (ع) قبل تلك الابتلاءات الإلهية الكثيرة وبعدها، فقد أتم إبراهيم الخليل إذن تلك الكلمات في حال حيازته لمقام النبوة الشامخ. بناءً على ذلك فلا يمكن أن يكون المقصود من الآية المذكورة (النُّبُوَّة)، لأن هذا تحصيل حاصل ومحال، فلا مندوحة من اعتبار هذا المقام الجديد شيئاً غير النُّبُوَّة، وبالطبع سيكون مقاماً أعلى من مقام النُّبُوَّة. وقد عبَّر اللهُ تعالى عن ذلك المقام بكلمة «عَهْدِي». وقد نصب الله تعالى نفسُهُ إبراهيمَ في مقام الإمامة، إذن الإمام يجب أن يكون معصوماً ومنصوباً مِنْ قِبَلِ الله مثل النبيّ، ولا يمكن لغير الله أن يختار شخصاً لمنصب الإمامة، لأن الإمامة عهدٌ إلهيٌّ وليست أمراً من أمور الناس حتى يمكن كسبها وحيازتها من طريق الشورى والتشاور، بل الله تعالى هو الذي يعيِّن الإمام وليس الناس!

ولتوضيح المغالطة في هذا الاستدلال نقول ما يلي:

أولاً: أنتم تقولون إن الإمام لا يوحى إليه. كما قال عليٌّ u أيضاً عن النبيِّ J صراحةً: "فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ" (نهج البلاغة، الخطبة 133). وقال: "بَعَثَ اللهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ" (نهج البلاغة، الخطبة 144). وقال: "بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ". (نهج البلاغة، الخطبة 235).

واعترف المَجْلِسِيّ في شرحه للحديث الثالث من الباب 61 بأن  «الشيخ المفيد» قال في كتابه «أوائل المقالات» [الذي شرح فيه عقائد الصدوق وعلق عليها] : "الاتفاق على أنه من زعم أن أحداً بعد نبينا J يُوحَى إليه فقد أخطأ وكفر."([1]).

لهذا السبب حتى لو فرضنا أن الإمامة من القرآن أعلى من النبوة، فإن ذلك لن يكون له أي علاقة بأئمة الشيعة، لأنه بإقراركم لم يكن يوحى إلى أولئك الكرام، ولكن - كما سوف نرى - فإن الله يوحي لإمام القرآن [أي: للإمام كما يطرحه القرآن]، ونتيجة هذا الكلام أننا لو أردنا أن نأخذ كلمة «إمَامَاً» المذكورة في الآية على معناها الشيعي، فالمعنى الذي ستفيده الآية 124 من سورة البقرة هو أن حضرة إبراهيم - عليه آلاف التحية والثناء - الذي خرج مرفوع الرأس من الابتلاءات الإلهية، وصل إلى مقام أصبح لا يوحى فيه إليه؟!!

ثانياً: إن «وحي النُّبُوَّة» أعلى شكل من أشكال ارتباط الله عزَّ وَجلَّ وصلته بعبد من عباده، أما الإلهام القلبي والرؤيا و..... فهي ارتباط دون رتبة وحي النُّبُوَّة، فكيف يمكن أن لا يكون هناك وحي إلهي في المقام الذي هو أعلى من مقام النُّبُوَّة؟!

ثالثاً: أنتم تقولون -من جهة- إنَّ النبيَّ الأكرم J حائزٌ على مقام النُّبُوَّة والإمامة كليهما، وتقولون -من الجهة الأخرى- إن الإمام لا يوحَى إليه. فنسألكم: فلماذا إذن حَزِنَ النبيُّ J حزناً شديداً لمَّا انقطع الوحيُ عنه مدةً أو تأخَّر وصول الوحي  إليه -كما جاء في سبب نزول سورة الضحى وسبب نزول الآية 23 من سورة الكهف-، ولم يعتبر أن هذا التأخير هو بمعنى العروج إلى مقام الإمامة الأرفع الفاقد للوحي؟!

رابعاً: طبقاً لادعائكم فإن «الإمامة» مقامٌ أعلى من النُّبُوَّة، لكن قدماء الشيعة لم يكونوا يعتقدون مثلَ هذه العقيدة، كما نرى أن الشيخ [الإمامي] «عبد الجليل القزويني» قال: "إن درجة النبوَّة أرفع من درجة الإمامة باتفاق العلماء"([2]).

خامساً: إذا تمعَّنَّا في موارد استعمال كلمة «الإمام» في القرآن ثبت لنا أنها تُسْتَخْدَم في كتاب الله بمعنى الشخص أو الشيء المُطاعِ والمُقْتَدَى به - أعم من كونه مؤمناً أو كافراً - كما تُسمَّى بذلك صحيفة الأعمال. كما نقرأ قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء/71].

ومن البديهي أن عبارة «كُلَّ أُنَاسٍ» تشمل الكفار والفساق والمؤمنين، ولا تنحصر بفريق خاص، فكل جماعة لهم إمام. لهذا السبب أيضاً قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص/5]. وأطلق كلمة «الإمام» على زعماء الكفر أيضاً الذين يقتدي بهم الكفار ويتبعونهم، فقال:﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ [التوبة/12]. وقال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ﴾ [القصص/41].

حتى أن القرآن أطلق على غير الإنسان كلمة «الإمام» باعتبار أنه محط الانتباه والاتِّباع ومبنى العمل، فقال: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ [هود/17]، بل سمَّى صحيفة الأعمال أيضاً إماماً فقال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس/12]، لأن ثواب كل إنسان وجزاءه سينبني على ما سُجِّل في صحيفة أعماله.

بناءً على ما تقدَّم أصبح من الواضح أن مقصود علماء الإمامية لا يحصل من الآية، ويمكن أن ندرك أن الإمامة الخالية من النُّبُوَّة لا تختص بالمعصوم بل لا تختصُّ حتى بالمؤمن العادي فضلاً عن المعصوم؟!([3])

سادساً: إن طريقة استخدام كلمة «الإمام» و«النبيّ» في القرآن تُبَيِّنُ أنَّ «النُّبُوَّة» لا تقبل التقسيم في القرآن الكريم، بعكس كلمة «الإمامة» التي تنقسم -كما شاهدنا- إلى أنواع، لهذا السبب  فإن لدينا في القرآن الكريم «إمام حق وإمام باطل» أو «أمام نور وإمام نار» أو «إمام إيمان وإمام كفر»، ولكن لدينا «نبيُّ نور» وليس لدينا «نبيُّ نار»، كذلك لدينا «نبيُّ إيمان» وليس لدينا «نبيُّ كفر» وهكذا....، فلا يمكن الادعاء بأن «الإمامة» مقام أرفع وأعلى من «النُّبُوَّة».

سابعًا: ليس لدينا دليل على أن إبراهيم (ع) كان مبعوثاً بالنُّبُوَّة لمَّا امتحنه الله بالكلمات الإلهية، لأنه رغم أن الآية 51 فما بعد من سورة الأنبياء تفيد أن إبراهيم (ع) كان يتمتع بعناية الله الخاصَّة به وكان موضعاً لإرشاد الله وإلهام الحق، لكن هذا لا يكفي للادعاء - دون دليل - بشكل قاطع أن إبراهيم كان قد بُعِث بالنُّبُوَّة قبل أن يتوجه إليه الخطاب الإلهي: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.....﴾ [البقرة/124]، فكم من الأنبياء كانوا يتمتعون بإرشاد الله وإلهامه وكلماته، لكنهم ما بُعِثوا بالنُّبُوَّة إلا بعد مدَّة من ذلك، فمثلاً رغم أن موسى (ع) قبل ذهابه إلى جبل الطور كان يتمتع بعناية الله وكان يُصنَع على عينه، لكنه لم يكن قد تلقَّى بعد الأمر بالنُّبُوَّة، أو حضرة عيسى (ع) الذي تكلَّم في المهد، لكنه لم يُبعَث بالنُّبُوَّة إلا في سنّ الكهولة، لهذا ما المانع من القول: إن الله أظهر في وجدان إبراهيم الطاهر الحقائق التي كانت تدعوه للقيام بالأعمال الصالحة والمفيدة، ولمَّا قام بتلك الأعمال على النحو المطلوب، كان نجاحه في ذلك مقدمةً لنبوته أي أنه أصبح مستعداً وأهلاً لخطاب: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.....﴾ [البقرة/124].

ثامناً: لقد وقعتم في ادعائكم بمغالطة واضحة! وهو أنكم ساويتم بين «الوحي» و«النُّبُوَّة»، مع أن بين المفهومين عموم وخصوص مطلق. وبلغة العامة يمكننا أن نقول: إن هذه المسألة ينطبق عليها مَثَلُ: "كل جوز كروي، وليس كل كروي جوز"، ولكنكم في استدلالكم جعلتم كل كرويٍ جوزاً!

نعم، بشهادة القرآن، رغم أنه لا تُتَصوَّر النُّبُوَّةُ من دون الوحي، ولكن الوحي من دون النُّبُوَّة ممكنٌ تماماً. فحتى لو فرضنا أن إبراهيم u كان يوحى إليه قبل أن يأتيه خطاب ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.....﴾، فإن هذا لا يستلزم بالضرورة  أن يكون قد بُعِثَ بالنُّبُوَّة قل ذلك الخطاب، ولا يمنع أن يكون بعثنه بالنبوَّة لم يحدث إلا بعد أن أتم الكلمات الإلهية التي ابتلاه الله بهن. ولكي لا نتكلم كلاماً من دون دليل - كما يفعل البعض - نرجع إلى القرآن المجيد:

أ) إن اليهود والنصارى والمسلمين متفقون على أن أم موسى (ع) لم تكن نَبِيَّةً، لكن القرآن يصرح بأنه أوحي لها: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص/7].

ب) جميع فرق المسيحيين وجميع فرق الشيعة والسنة متفقون على أن حواريِّي عيسى u لم يكونوا أنبياء، مع أنه أوحي إليهم: ﴿إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ [المائدة/111].

تاسعاً: لنفرض أننا قبلنا دون نقاش أن مقام «الإمامة» أرفع وأعلى من مقام «النُّبُوَّة» الشامخ! في هذه الحال كيف يمكن لفرد غير حائز على مقام «النُّبُوَّة» الأدنى من مقام «الإمامة»، أن يصل إلى مقام «الإمامة» الأرفع؟ كيف يمكنه أن يتربع على قمة الكمال دون أن يقطع سلسلة مراتب الكمال؟

إذن حتى في هذا الفرض أيضاً لا يتيسَّر نيل مقام «الإمامة» -بصفتها عهداً من الله ومنصباً إلهيّاً-، الذي هو في نظركم فوق مقام «النُّبُوَّة»، لغير النبيّ، ولابدّ أن يكون هذا المقام منحصراً بالأنبياء فقط الذين تتوفّر فيهم معظم الأهليّة، ويكونوا حائزين على أعلى مقام قبل مقام «الإمامة»، لهذا السبب فإن الأئمة الذين هم مد نظركم والذين - باعترافكم أنفسكم - لم يكونوا حائزين على مقام «النُّبُوَّة» لا يمكنهم أن ينالوا مقام «الإمامة» المذكور في الآية 124 من سورة البقرة الذي تدَّعُونَهُ لهم.

عاشراً: إن النُّبُوَّة بإجماع المسلمين - وربما بإجماع اليهود والنصارى أيضاً - تفضُّلٌ من الله على العبد، ولا يمكن الحصول عليها بمجرد العبادات والمجاهدات، بل تُعطى بمقتضى لطف الله ورحمته لأفراد معدودين من العباد طبقاً لحكمة الله البالغة. وقد أجمع المسلمون على أن هذا التفضل الإلهي وصل ببعثة النبيِّ الأكرم J إلى نهايته وخُتِم. وكان وأولـئك الأفراد الاستثنائيون المعدودون الذين نالوا نعمة النُّبُوَّة، إضافةً إلى إنباء الخلق وتبليغهم تعاليم الله وأحكامه التي توحَى إليهم، أسوةً وأئمَّةً يَقْتَدِي بهم الناس، وهذا النمط من الإمامة لا يقبل الانفكاك عن النُّبُوَّة، وهي إمامةٌ موجودةٌ لدى جميع الأنبياءِ، سواء إبراهيم (ع) أم غيره من سائر الأنبياء. وفي الواقع إن الأنبياء نُصِبوا بواسطة الوحي الإلهي - وحي النبوة بالطبع - في منصب إمامة الناس، وهم في أمر هداية عباد الله وتعليم، أئمةٌ وأسوةٌ لِمَنْ أُرْسِلوا إليهم بمهمَّة دعوتهم إلى الله.

تلاحظون إذن أن المغالطة الثانية لعلمائنا هي أنهم يريدون أن يثبتوا أن النسبة بين الإمامة الإلهية وَالنُّبُوَّة هي نسبة «العموم والخصوص من وجه» في حين أن نسبة الإمامة الإلهية وَالنُّبُوَّة هي التساوي. أي أنَّ كلَّ رسولٍ إمامٌ حتماً، ولا يوجد نبيٌّ ليس بإمام، وبالطبع فإن الإمامة الإلهية، التي هي من تبعات النُّبُوَّة، خُتمت بِنُّبُوَّة النبيِّ الأكرم وإمامته J، وليست قابلة للانتقال إلى الآخرين. ونرى أيضاً في القرآن أنه يوحَى إلى الإمام المنصوب مِنْ قِبَلِ الله، وأن الله اعتبرَ الأنبياءَ ومن جملتهم لوط وإسحق ويعقوب «أئمَّةً» وصرَّح بأنه كان يوحى إليهم فقال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ...﴾ [الأنبياء/73]، واعتَبَرَ أنبياء بني إسرائيل أئمَّةً أيضاً فقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾ [السجدة/24]. وينبغي أن ننتبه إلى أن الله اعتبر هؤلاء الأئمة (أي أنبياء بني إسرائيل مثل إسحق ويعقوب) أنبياء فقال: ﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مريم/49].

وأُكرِّرُ أن الإمامة المنصوبة والمنصوصة عليها مِنْ قِبَلِ الله خُتمت بالنبيِّ الأكرم J، وإلا فكيف يمكن لِـلَّهِ الحكيم أن يذكر الأنبياء والأئمَّة الإلهيين للأمم السابقة بشكل صريح في القرآن، أما أئمَّة المستقبل لأمة الإسلام، فيترك بيانهم لحديث الغدير الذي لا يتبين المقصود منه بوضوح وافٍ، أو يوكل بيان ذلك إلى رواة الكُلَيْنِيّ وحديث لوح جابر وأمثالهم؟!!([4]).

لو أن الله تعالى هو الذي نصب أئمَّة أهل البيت لما امتنع عن تعريفنا بهم وبيانهم لنا، خاصةً الأئمة الذين اعتُبِرت سعادةُ الأمَّةِ رهينةً بمعرفتهم واتِّباعهم.

دليلنا على أن مقام «الإمامة» ليس أرفع من مقام «النُّبُوَّة» هو أن الله قال عن أولئك الأئمَّة: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد/26].  فكيف يمكن أن يذكر الله تعالى - في مقام إظهار تفضله وكرامته على الأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم: الدرجة الأدنى - أي النُّبُوَّة - ولا يذكر الدرجة الأعلى - أي الإمامة - التي تندرج ضمنها الدرجات التي قبلها؟!

ثم إن نقيض «الظالم» هو «العادل» لا المعصوم وإلا لوجب أن لا ينال موسى u (القصص/15-16) ويونس u (الأنبياء/87، والصافات/140 فما بعد) اللذَيْن احتاجا إلى غفران الله بسبب ظلمهم لأنفسهم مرةً على الأقل، عهد الإمامة، في حين أنهما لما كانا عادلين نالا نعمة بالنبوة والإمامة الإلهية.

أما الإمامة الخالية من «الوحي» فهي مقام لا يختصُّ بأفراد خاصّين محدّدين، بل إن الله حرَّض عباده على السعي لنيل هذا المقام، وقال: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان/74].

وبديهي أنه لو وصل أحد بالعلم والمجاهدات إلى هذا المقام، فلن يكون أعلى ولا أرفع من الأنبياء.

بعد الإيضاحات التي ذكرناها أعلاه يجب أن نرى ما هو معنى الآية 124 من سورة البقرة؟

يَتَبَـيَّنُ من القرآن الكريم أن الله الحكيم فضَّل بعض الأنبياء على بعض (البقرة/253، والإسراء/55) ويمكننا أيضاً أن نستنبط أن مجال نبوة أنبياء الله وإمامتهم كان متفاوتاً أيضاً، فبعض الأنبياء بُعِثوا إلى أقوامهم أو إلى جماعات محدودة([5])، وكانوا يبلغون شريعة الأنبياء الذين سبقوهم ويعلمونها للناس. وأُطْلِقَ على هذا النمط من الأنبياء رُسُل التبليغ([6]). مثل: هود وصالح وشعيب ولوط([7]) سلام الله عليهم. وبعض الأنبياء كان لديهم كتاب خاص بهم، ولم تكن رسالتهم محدودة بقوم دون قوم، بل كان مجالها يشتمل على نطاق أوسع بكثير.

بملاحظة الأمور التي ذكرناها أعلاه، حتى لو قبلنا أن يكون إبراهيم (ع) حائزاً على النبوة قبل مخاطبته بخطاب: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.....﴾ [البقرة/124]. في هذه الحالة - كما ذكر ذلك بعض المفسرين - نقول: إن إبراهيم بُعِث في البداية إلى أبيه وعائلته وأسرته، أو إلى قومه وأهل مدينته، وكان يُعتبر إماماً لهم، ثم لما أتم كلمات الله أخذت نبوته الصفة العامة، وأصبح مرسلاً لكل الناس أي: أزيلت عنها الحدود المكانية، وجعله الله إماماً ونبياً  لجميع البشر. مثلاً: افرضوا أن شخصاً ما كان «قائمَ مقامٍ»، ثم بفضل نجاحه في أداء وظيفته تم ترفيعه إلى مقام «محافظ»، فأصبحت مسؤوليته التي كانت من قبل محدودةً بمنطقة صغيرة تشمل الآن منطقةً أكبر وأوسع. إن الفرقَ بين نبوة خليل الله (ع) بعد خطاب: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا.....﴾ [البقرة/124]، ونبوَّة  بعض الأنبياء الآخرين هي أن إمامة ونبوة خليل الرحمن لم يكن لها حدود مكانية بعكس إمامة ونبوَّة بعض الأنبياء الآخرين التي كانت محدودة بمنطقة جغرافية خاصة. كذلك فإن الفرقَ بين نبوته ونبوة النبي الأكرم J أن إمامة ونبوَّة خاتم الأنبياء J إصافةً إلى عدم محدوديتها المكانية، ليست محدودةً من ناحية الزمان أيضاً، بل جميع البشر (الناس) إلى يوم القيامة مخاطبون برسالته. إن إمامة الأنبياء موضوعٌ واضحٌ وقد اعتَبَر أميرُ المؤمنين عليٌّ u  أيضاً النبيَّ الأكرمَJ إمامَ المتقين، وقال: "هُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى" (نهج البلاغة، الخطبة 94 و116).

نُذكِّر من جديد أنّ من جملة شؤون الأنبياء، شأن الإنباء والإنذار ومن هنا يأخذ الرسل لقب «النبي» و«النبوَّة»، والشأن الآخر للأنبياء هو أنهم قدوة وأسوة للناس وقد عبّر القرآن عن هذا الشأن - كما مر معنا في الصفحات الماضية - بكلمة «الإمام» و«الإمامة». نتيجة لذلك فإن «الإمامة» المذكورة في الآية 124 من سورة البقرة تشير إلى نبوَّة حضرة إبراهيم u، نظراً إلى شأن القدوة والأسوة التي كان يتمتَّع بها. ولذلك فقد أُمِر النبيُّ الأكرم J أن يقتدي بهداية أنبياء السلف الذي كان خليل الرحمن من أعظمهم فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام/90]، وإلا فلا أثر في القرآن للإمامة التي تكون عهداً من الله لعبد من عباده، وتُفَوَّضُ إلى غير النبيّ.



([1])   وراجعوا أيضاً بحار لأنوار،  ج 26، ص 84. وسفينة البحار، ج2، ص 638.

([2]) كتاب «النَّقْض»، صفحة 57.

([3])   والكُلَيْنِيّ نفسه اعتبر في الباب 83 من الكافي (ج 1، ص 215) أن الإمام نوعان: إمام داع إلى الله، وإمام داع إلى النار.

([4])   من الضروري الرجوع في هذا الموضوع إلى كتاب  شاهراه اتحاد [أي: طريق الاتحاد].

([5])   مثل يونس عليه السلام الذي بعث لأقل من مئتي ألف نفر (الصافات/ 147).

([6])   راجعوا الصفحة 65 من كتاب شاهراه اتحاد [طريق الاتِّحاد]، فصل: العقل منكر للنص.

([7])   مثلاً كان لوط عليه السلام تابعاً لشريعة إبراهيم وكتابه. (العنكبوت/26).