212. دلالة جهل بعض خواص أصحاب الأئمة المقرَّبين بالإمام التالي لإمام وقتهم
تذكير حول الحديث السابع:
لقد قارنَّا الحديث السابع بالحديثين الثامن والتاسع في هذا الباب، ولكن قبل دراسة الأحاديث التالية من الضروري أن نُذَكِّر بنقطةٍ هامَّةٍ حول الحديث السابع والأحاديث المشابهة له:
اعلم أن الحديث السابع وأمثاله أوجد مشكلة كبيرة للخرافيين وأدى إلى طرح سؤال مهم يقول: إن كانت الإمامة المنصوص عليها من الله معروفة لأتباع الأئِمَّة على الأقل وإن كان قد تمَّ تعريفُ الأمة بالأئِمَّة بواسطة أحاديث النص، فكيف نُفسِّر عدم معرفة عددٍ من كبار أصحاب الأئِمَّة وخواصِّهم -ومن جملتهم مؤمن الطاق أو هشام بن سالم أو زرارة بن أعين أو .....- للإمام التالي لإمامهم؟! أولم يكونوا قد قرؤوا حديث لوح جابر أو غيره من نصوص إمامة الأئِمَّة الاثني عشر أو سمعوا بها؟!([1])
ولقد لفَّق المرحوم «الصدوق» في كتابه «كمال الدين» كلاماً واهياً لحل هذه المعضلة نورده فيما يلي:
قال بشأن «زرارة» فقط- في تَـجَاهُلٍ تامٍّ للعديد من أصحاب الأئِمَّة الآخرين الذين لم يكونوا يعلمون الإمام بعد الإمام الصادق -:
"وذلك أنَّا لم ندَّعِ أن جميع الشيعة عرف في ذلك العصر الأئمة الاثني عشر (ع) بأسمائهم، وإنما قلنا إن رسول الله J أخبر أن الأئمة بعده الاثنا عشر الذين هم أمناؤه، وأن علماء الشيعة قد رووا هذا الحديث بأسمائهم، ولا يُنْكَرُ أن يكون فيهم واحدٌ أو اثنان أو أكثر لم يسمعوا بالحديث!!."([2]).
ونسأل الصدوق: أليست الإمامة ومعرفة الإمام من أصول الدين؟ فكيف لم يكن الشيعة قد سمعوا بأحد أصول الدين ومصاديقه؟ أَضِفْ إلى ذلك أن «زرارة» لم يكن ممن ينطبق عليه عبارة "قد يكون فيهم واحد أو اثنان لم يسمعوا بالحديث". لأنه كان من خواص الأئِمَّة وأصحابهم المُقرَّبين، ويختلف كثيراً عن سائر الناس، فلا يصح أبداً في حقه ما قاله الصدوق من أنه إذا كان هناك واحد أو اثنان لم يسمعا حديث النص على أسماء الأئِمَّة فإن «زرارة» واحدٌ منهم يقيناً!([3])
ثم قال الشيخ الصدوق:
"فأمّا زرارة بن أعين فإنه مات قبل انصراف من كان وفده ليعرف الخبر، ولم يكن سمع بالنص على موسى بن جعفر (ع) من حيث قطع الخبر عذره، فوضع المصحف الذي هو القرآن على صدره وقال: «اللهم إني أئتمُّ بمن يُثْبِتُ هذا المصحف إمامته». وهل يفعل الفقيه المُتديِّن عند اختلاف الأمر عليه إلا ما فعله زرارة؟".
من الواضح أن لا أحد ينتقد عمل زرارة ولا أحد يقول إن على الفرد المؤمن أن يعمل غير ما عمله، لكن قيام فرد من أكبر أصحاب الإمام الصادق u بهذا العمل يثبت بشكل واضح أنه كان جاهلاً، مثل بقية الأصحاب الكبار كأبي بصير ومؤمن الطاق وهشام و.....، بأحاديث النص على الأئِمَّة الاثني عشر.
وأضاف الشيخ الصدوق قائلاً:
"على أنه قد قيل: إن زرارة قد كان علم بأمر موسى بن جعفر (ع) وبإمامته وإنما بعث ابنه عبيداً ليتعرف من موسى بن جعفر (ع) هل يجوز له إظهار ما يعلم من إمامته أو يستعمل التقية في كتمانه؟ وهذا أشبه بفضل زرارة بن أعين وأليق بمعرفته.".
إن هذا الاحتمال لا ينسجم أبداً مع رواية الصدوق السابقة ولا يمكن الجمع بينهما بأي وجه من الوجوه، ومن الواضح أن الصدوق لم يكن مطمئناً إلى كلامه نفسه، بل كان غاية همه إيجاد تفسير وتبرير لهذه المشكلة، وإلا فإما أن نقول إن زرارة لم يكن قد سمع خبر النص على إمامة حضرة موسى بن جعفر (ع) أو نقول إنه كان يعلم النص على الإمام التالي ولكنه كان يريد معرفة تكليفه الشرعي بشأن ترك العمل التقية في بيان من هو الإمام بعد الإمام الصادق أو مواصلة العمل بالتقية في هذا الصدد.
والأهم من ذلك أنه طبقاً لهذه الروايات فإن زرارة كان يريد اسم الإمام ليظهر الشهادة بذلك على فراش الموت لا ليُعْلِمَ الآخرين بذلك، وهذا أمر لا علاقة له بالتقية أم عدم التقية، ولهذا السبب نرى أنه يخاطب ربه تبارك وتعالى، وهذا العمل يتطابق مع الأحاديث التي أوردها الكُلَيْنِيّ في الباب 144 عن رسول الله والتي تقول: "مَنْ مَاتَ لَا يَعْرِفُ إِمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً"([4]).
ثم ينقل الصدوق عن الإمام الرضا (ع) كلاماً ضعيفاً لا يمكن للإمام أن يقول مثله، تقول رواية الصدوق:
"عن إبراهيم بن محمد الهمداني رضي الله عنه قال قلت للرضا (ع): يا ابن رسول الله! أخبرني عن زرارة هل كان يعرف حق أبيك (ع)؟ فقال: نعم. فقلت له: فَلِمَ بَعَثَ ابنَه عبيداً ليتعرَّف الخبر إلى من أوصى الصادق جعفر بن محمد (ع)؟! فقال: إن زرارة كان يعرف أمر أبي (ع) ونص أبيه عليه وإنما بعث ابنه ليتعرف من أبي (ع) هل يجوز له أن يرفع التقية في إظهار أمره ونص أبيه عليه؟ وأنه لما أبطأ عنه ابنه طولب بإظهار قوله في أبي (ع) فلم يحب أن يقدم على ذلك دون أمره فرفع المصحف وقال: اللهم إن إمامي من أثبت هذا المصحف إمامته من ولد جعفر بن محمد (ع)!"([5]).
أولاً: كما قلنا لا تلبي هذه الرواية الإجابة التي ترفع حيرة مؤمن الطاق وهشام والآخرين، ولا تحل المعضلة. هذا في حين أنه لو كان الإمام الرضا (ع) يريد حل المشكلة لأجاب قطعاً إجابةً وافيةً وكافيةً.
ثانياً: من الذين كانوا يريدون من «زرارة» أن يفصح لهم عن إمامة حضرة الكاظم (ع)؟ إن كانوا يعرفون الإمام بعد الإمام الصادق u فلا معنى للتقية معهم إذاً، وإن لم يكونوا يعرفونه فلماذا سألوا عن حضرة «موسى بن جعفر» ولم يسألوا عن «عبد الله بن جعفر»؟!
ثالثاً: روى الكِشِّيّ في رجاله رواياتٍ تردُّ كلام الصدوق. منها الرواية التالية:
"قال لما كانت وفاة أبي عبد الله (ع) قال الناس بعبد الله بن جعفر، واختلفوا: فقائلٌ قال به، وقائلٌ قال بأبي الحسن (عليه السلام)، فدعا زرارة ابنه عبيداً، فقال: يا بُنَيَّ! الناس مختلفون في هذا الأمر، فمن قال بعبد الله [أي الأفطح] فإنما ذهب إلى الخبر الذي جاء أن الإمامة في الكبير من ولد الإمام، فشد راحلتك وامض إلى المدينة حتى تأتيني بصحَّة الأمر. فشدَّ راحلته ومضى إلى المدينة، واعتلَّ زرارة فلما حضرته الوفاة سأل عن عبيد، فقيل إنه لم يقدم، فدعا بالمصحف فقال: اللهم إني مُصدِّق بما جاء نبيك محمَّد فيما أنزلته عليه وبيَّنتَه لنا على لسانه، وإني مُصدِّق بما أنزلته عليه في هذا الجامع، وإن عقدي وديني الذي يأتيني به عبيد ابني وما بينتَه في كتابك، فإن أمتني قبل هذا فهذه شهادتي على نفسي وإقراري بما يأتي به عبيد ابني وأنت الشهيد عليَّ بذلك. فمات زرارة"([6]).
في الواقع لقد طبَّق «زرارةُ» بعمله هذا ما جاء في الحديث السابع من «الكافي» حين أجاب الإمام الصادق u من سأله: "فَإِنْ لَمْ أَعْرِفْهُ [أي لم أعرف الإمام بعدك] وَلَا أَعْرِفْ مَوْضِعَهُ؟؟ قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَوَلَّى مَنْ بَقِيَ مِنْ حُجَجِكَ مِنْ وُلْدِ الْإِمَامِ الْمَاضِي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِيكَ إِنْ شَاءَ اللهُ"([7]).
وجاء في رواية أخرى رواها الكِشِّيّ بشأن «زرارة» ما يلي:
"عن عمَّةِ زرارة، قالت: لما وقع زرارة واشتدَّ به، قال: ناوليني المصحف فناولتُهُ وفتحتُهُ، فوضَعَهُ على صدره، وأخذه مني ثم قال: يا عمَّة! اشهدي أن ليس لي إمام غير هذا الكتاب"([8]).
كما روى الكِشِّيّ: أن «زرارة» وجَّهَ ابنَه عبيداً إلى المدينة ليستخبر له خبر أبي الحسن موسى (ع) وعبد الله بن أبي عبد الله، لكن «زرارة» مات قبل أن يرجع إليه عبيد. قال محمد بن أبي عمير، حدثني محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي الحسن الأول (حضرة الكاظم عليه السلام) وذكرت له «زرارة» وتوجيهه ابنه عبيداً إلى المدينة، فقال أبو الحسن: إني لأرجو أن يكون «زرارة» ممن قال الله تعالى [فيه]: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾ [النساء/100]"([9]).
وروى الكِشِّيّ أيضاً:
"عن هشام بن سالم، قال: قال لي زرارة بن أعين: لا ترى على أعوادها [أي منصب الإمامة أو خلافة النبي بحق] غير جعفر [بن محمَّد]، قال: فلما توفي أبو عبد الله (ع) أتيته فقلت له: أتذكر الحديث الذي حدثتني به؟ وذكرته له، وكنت أخاف أن يجحدنيه، فقال: إني والله ماكنت قلت ذلك إلا برأيي"([10]).
كما يُلاحَظ لم يكن «زرارة» يعرف الإمام التالي وإلا لما قال مثل ذلك الكلام. وقد قلنا في السطور السابقة إنه لا يمكن أن يكون الحديث الذي رواه «الصدوق» عن الإمام الرضا (ع)، كلامَ الإمام الرضا (ع) فعلاً، لأنه كما لاحظتم لم يكن لعمل «زرارة» أي علاقة بالتقية. أضف إلى ذلك أن رواية «الصدوق» لا تتفق مع الحديثين اللذَيْن رواهما الكُلَيْنِيّ في الباب 120 من «الكافي» عن الإمام الرضا (ع) نفسه وعن جده حضرة الإمام الصادق u([11]). مضمون الأحاديث المذكورة هو أن لكل إمام وصية معروفة ومشهورة وأن "مِنْ عَلَامَاتِ الإمام أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْوَصِيَّةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي إِذَا قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ سَأَلْتَ عَنْهَا الْعَامَّةَ وَالصِّبْيَانَ: إِلَى مَنْ أَوْصَى فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ"([12]).
أيها القارئ العزيز! كيف يمكن لإمام يقول هو نفسه وَجَدُّهُ أن الإمام مشهور إلى درجة أن أهل كلِّ مدينة جميعَهم حتى الصبيان منهم يعرفونه، ثم يقول هو نفسه إن «زرارة» كان يعمل بالتقية بشأن إظهار اسم الإمام حتى وهو على فراش الموت؟!! خاصة أن الذين يحضرون عند المحتضر على فراش موته يكونون عادة من أهل بيته وأقربائه المقربين لا الخليفة ولا مأمورو الحكومة كي يحتاج إلى التقية معهم! (فتأمل)
الآن بعد أن عرفنا ذلك نعود إلى دراسة بقية أحاديث الباب 138.
([1]) ذكر أخونا المحقق الأستاذ «قلمداران» رحمه الله في كتابه «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] (ص 248 فما بعد)، أموراً هامة حول حيرة أصحاب الأئِمَّة بشأن الإمامة.
([2]) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، مكتبة الصدوق، ج 1، ص 74 فما بعد.
([3]) جاء في رجال الكِشِّيّ (ص 138): "عن جميل بن دراج، قال ما رأيت رجلاً مثل زرارة بن أعين، إنا كنا نختلف إليه فما نكون حوله إلا بمنزلة الصبيان في الكتاب حول المعلم". ولمعرفة المزيد عن منزلة «زرارة» ومقامه لدى الأئِمَّة راجعوا ص 251-252 من كتاب «شاهراه اتِّحاد».
([4]) أصول الكافي، ج 1، ص 376-377. وقد نقلنا هذا الكلام من الحديث 3 في الباب 144 الذي صححه كِلا المَجْلِسِيّ والبِهْبُودِيّ.
([5]) لو كانت إمامة الأئِمَّة تُفْهَم من القرآن لما كانت محلاً للتقية، لأن القرآن كان في متناول عامَّة الناس.