191. بحث حول آية التبليغ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾
تمَّ في هذا الحديث الاستناد إلى الآية 67 من سورة المائدة، وسنذكر هنا الآية وترجمتها، كي يحكم القراء بأنفسهم ولا تخدعهم أكاذيب رواة الكُلَيْنِيّ:
قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ 65 وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ 66 يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ 67 قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة/65 - 68].
يقول الرواة من صُنَّاع المذاهِب والمفرِّقين بين المسلمين إن الآية 67 من سورة المائدة نزلت قرب غدير خُم، وإن معناها: أيها الرسول بلِّغ ما أنزلناه عليك بشأن ولاية عليٍّ وخلافته، وإن لم تفعل فما بلغت رسالة الله، والله يحفظك من شر الكافرين والمنافقين، والله لن يهدي القوم الكافرين الذين لا يقبلون ولاية عليٍّ.
فنسأل: من هم «الكافرون» المذكورون في هذه الآية ومن هم «النَّاس» الذين قال تعالى عنهم: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾؟
هل اعتبر الله أصحاب النبي J الذين رجعوا لتوّهم من أداء مناسك الحج بعد أن قاموا بغزوات وسرايا متعدِّدة وتضحيات متوالية طاعةً لأمر الله واتباعاً لرسول الله J، كافرين؟! هل اعتبر اللهُ أصحابَ النبيِّ كافرين بعد أن ترك كثيرٌ منهم ديارهم وأرضهم وأموالهم وهاجروا ابتغاء رضوان الله وقال اللهُ عنهم: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ...﴾ [الحج/41]، وقال عنهم أنهم: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال/74]، وأنزل في مدحهم والثناء عليهم عشرات الآيات الأخرى؟!([1]) هل اعتبر الله تعالى أصحاب النبي J كافرين إلا ثلاثة أو سبعة منهم فقط؟!
وكما قلنا في تفسير «تابشى از قرآن» [شُعَاعٌ من القرآن]:
"لا أظنُّ أن مسلماً عاقلاً يُمكنه أن يقول مثلَ هذا القول، ويُفقِد الإسلام والقرآن قيمتهما، لأن رواة الإسلام هم الصحابة أنفسهم الذين مدحهم القرآن مراراً، فإذا كان هؤلاء كافرين فلن يبقى للإسلام رواةٌ إلا أخبار آحاد، وهي لا تُفيد العلم. إضافةً إلى أن هذا القول يستلزم -والعياذ بالله- كذب ثناء القرآن على أولـئك الصحابة ومدحه المُكرَّر لهم، وستُصبح الآيات التي أنزلها الله في فضائل المُهاجرين والأنصار بلا مصاديق خارجية وسيظهر أن الله أخطأَ -نعوذ بالله-، وسيُصبح القرآن كله ساقطاً من الاعتبار!".
ثانياً: لو أنّ الآية 67 من سورة المائدة نزلت بُعَيد حادثة غدير خم فإنّ نزول تلك الآية كان في زمنٍ قد ذهب فيه أصحاب النبي - أعم من المهاجرين والأنصار - برفقة رسول الله J من مكَّة، بعد أن أدَّوا مناسك حجِّ التمتّع بإشراف النبي وإرشاده، وصاروا في طريق العودة من مكة إلى المدينة. فهل يمكننا أن نصدّق أن اللهَ، بدلاً من أن يقول للمهاجرين والأنصار - الذين عرَفْنا كيف وَصَفَهُمُ اللهُ في آيات متعدِّدة من كتابه - «عسى الله أن يتقبل أعمالكم» ونحو ذلك، اعتبرهم كافرين غير مستحقِّين للهداية؟!
ثالثاً: إن معنى كون المهاجرين والأنصار كافرين هو أنّ أصحاب النبي J الذين تربَّوا على يديه مباشرةً والذين كانوا على صلة مباشرة بشخصية الرسول الرفيعة ومزكِّي النفوس في الإسلام، والذين كانوا تحت تأثير تربيته وإرشاده المباشر، لم يؤمنوا إيماناً واقعياً بل لم يكونوا مؤمنين أصلاً! أي أن تربية النبي J لم تؤثِّر في أتباعه أي تأثير يُذْكَر، بحيث أنه تكن نتيجة أتعاب النبي J خلال 23 سنة سوى إيمان 3 أشخاص أو 7 من أصحابه!!
رابعاً: نزلت سورة المائدة في أواخر عُمْر النبي J بعد أن دخل معظم أهالي الحجاز في الإسلام، فالنبيُّ الذي لم يخشَ لومة لائم في الصدع بالحق وإبلاغِ قومِه رسالةَ ربِّهِ في الأيام الأولى من بعثته عندما كان وحيداً لا ناصر له من الناس ولا معين، كيف يمكن له أن يتأخر في أواخر عمره، وبعد أن أصبح له آلاف الأنصار والأتباع والفدائيين، عن تبليغ ما أنزل الله إليه؟!
خامساً: إذا كنتم لا تعتبرون أن المُراد من «ما» الموصولة في الآية 67 من سورة المائدة هو ما أفادته الآية التي جاءت بعدها، ففي هذه الحالة يجب أن تقولوا أين هي الآية التي نزلت في خلافة علي المباشرة للنبي وكان النبي قلقاً من تبليغها، حتى جاءت الآية 67 في سورة المائدة لتوصيه بإبلاغها وتؤكد عليه ذلك أشد التأكيد؟! ينبغي عليكم أن تقولوا أيَّ آية في القرآن هي آية النص على خلافة عليٍّ التي نزلت على النبيِّ ولكن النبيَّ J لم يُبَلِّغْها إلى ما قبل نزول الآية 67 من سورة المائدة؟؟
لماذا لم يُشِر النبيُّ إلى الآية 6 من سورة الأحزاب([2]) في خطبته التي خطب بها الناس في غدير خم بل قال جملة: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاه" واستخدم كلمة «المولى» التي لها - حسب قولكم - 27 معنى([3])، ولم يأتِ على الآية التي تتكلَّم عن أصل الإمامة وخلافة عليٍّ المباشرة وأولاده من بعده بأي ذكر؟!! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.
إما أن يرينا الكُلَيْنِيُّ وأمثالُهُ ما نزل في القرآن بشأن الخلافة أو يرموا بعيداً روايات أمثال أبي الجارود الملعون وسهل بن زياد.
سادساً: لم يستدلّ أمير المؤمنين عليٌّ u بهذه الآية أبداً في جميع احتجاجاته التي احتج بها على بقيّة الصحابة، وهذا يبيّن أنّه لم يكن يعتبر الآية ذات علاقة بإمامته، وإلا لما توانى عن الاستدلال بها، على الأقل لإتمام الحجة.
ونقول: إن الآية 67 من سورة المائدة تتعلّق - بقرينة الآيات التي جاءت قبلها وبعدها - بكفر اليهود والنصارى، خاصة أنّ عبارة «القوم الكافرين» تكرَّرت في الآية 68 وهي تشير إلى أهل الكتاب، وتوضِّح المراد من الكافرين في الآية 67.
في أواخر عمر النبيّ الأكرم J وبعد أن دخل أكثر أهل الحجاز في الإسلام واجه النبيJ الدول القوية الكافرة ومؤامرات اليهود والنصارى، ولم يكن مطمئناً إلى تلك الدول والأعداء وما يحيكونه للإسلام من شرّ، ولذلك كان يحتاط في مواجهتهم، لأنهم كانوا يتمتعون بقوة عسكرية هائلة، كما كان لهم أيادٍ وعملاء داخل الحجاز وكانوا يستطيعون أن يحدثوا فتنةً ومؤامرة بواسطتهم داخل الحجاز، لذا لم يكن النبي J يرغب باستثارتهم.
كانت تلك الدول الكبيرة المحيطة بالحجار، إضافةً إلى تركها الدين الحقيقي وانحرافها عن التوحيد الخالص، لا تعمل بالتوراة والإنجيل التي تدّعي أنها تؤمن بهما، لذا قال الله في الآية 66: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ....﴾، ثم قال لنبيّه في الآية 67: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾، ثم أمر نبيّه أن يقول في الآية 68: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
في الواقع، لا يوجد أي فاصل بين أمر الله لنبيّه بإبلاغ ما أُنزِل إليه وبين مضمون هذا الذي أنزله الله إليه والذي يجب عليه تبليغه. وإلا فليس من المعقول أن ننكر ارتباط الآية بما قبلها وما بعدها ونصوِّر آيات القرآن وكأنها غير مرتَّبة ولا يرتبط بعضها ببعض ونقول إن الآية أمرت بتأكيد بالِغ وحتى بالتهديد بإبلاغ ما أنزل الله إلى النبي، أما الرسالة التي يجب إبلاغها فلم تُذكَر بعد هذه الآية!! هل يبيّن القرآن - الذي هو المظهر الأكمل للفصاحة والبلاغة - مقاصده بهذه الصورة؟!
إضافة إلى ذلك - كما قلنا - إن على هؤلاء الرواة أن يبيّنوا لنا الآيات التي تشير إليها جملة «مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» في القرآن؟
والطريف أن علماء الشيعة [الإمامية] يعتبرون صيام يوم عاشوراء مكروهاً وبعضهم يراه مُحرَّماً، في حين جاء في هذا الحديث (السادس): "كَانَ رَسُولُ اللهِ J إِذَا كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ بَعَثَ إِلَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْقُرَى فَصَامُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ"! والأمر الآخر أن الحديث ذكر أن عدد أبناء عليٍّ (ع) اثنا عشر ابناً في حين أن الشيخ المفيد قال في «الإرشاد» أنه كان لعليٍّ احدى عشر ابناً. (الإرشاد، ج 1، ص 354).