111. تذكير بمظلوميَّة الأئمة عليهم السلام
رغم أننا تكلّمنا إلى حدٍّ ما في مقدمة هذا الكتاب عن أصحاب الأئمَّة، لكننا نرى من اللازم - قبل أن ننتقل إلى دراسة ونقد الأحاديث التالية في هذا الباب - أن نُذَكِّر القراء الكرام مرةً ثانيةً بهذا الموضوع المهم جداً:
لم يتعرَّض أئمَّة أهل البيت - عليهم السلام - إلى الظلم مِنْ قِبَلِ خصومهم وأعدائهم المعروفين الواضحين، بل ظُلموا ظلماً شديداً أيضاً مِنْ قِبَلِ من يُذكرون اليوم على أنهم كانوا من أصحاب أولئك الأئمة الكرام. إن كثيراً ممن كانوا يترددون إلى الأئمَّة كانت لهم مقاصد وأهداف مختلفة، ولا ينبغي الظن بأن كل من كان يُظهر نفسه على أنه من محبي أولئك الأئمَّة الأجلاء ويثني عليهم كان مخلصاً وصادقاً فعلاً، بل إن عددا كبيراً منهم - كما قلنا في مقدمة هذا الكتاب([1]) - كانوا ينسبون أهواءهم وعقائدهم إلى أولئك الأئمَّة، ويروون أحاديث فيها على ألسنتهم، أو يحرفون كلامهم ويغيرونه! وبعضهم كان صديقاً جاهلاً أسوء من عدو([2])، وبعضهم عدوٌ عالمٌ يتظاهر بأنه صديق!
إذا رجع أحدنا -لأجل دراسة وتحليل أحوال الأشخاص الذين كانوا يحيطون بالأئمة ويُعتبرون من حاشيتهم- إلى كتب التاريخ، بل حتى إلى كلمات الأئمَّة أنفسهم، فإنه سيتعجب كيف أحاط بالأئمَّة أفرادٌ مُجَرَّدون من الإيمان لا يتَّقون الله، وستنتابه الحيرة من تمكن أولئك الأشخاص الذين كانوا يُعرفون بأنهم من أصحاب الأئمَّة الكرام من خيانة الإسلام والتلاعب بكتاب الله وتعاليم الشرع، وجرِّ الناس بحديثهم نحو الانحراف. وبالطبع لا يقتصر الذين ظلموا الأئمة على الأشخاص المجروحين والمضعَّفين في كتب الرجال([3])، بل عددهم بفوق ذلك، وأفضل طريقة للتعرف عليهم ملاحظة الروايات التي رووها ونسبوها إلى الأئمَّة.
لما كان أئمَّة أهل البيت محبوبين ومحترمين بين المسلمين، كان أعداء الدين من طرف، والانتهازيون والباحثون عن مصالحهم من الطرف الآخر يسعون إلى تحقيق مقاصدهم من خلال انتسابهم إلى أولئك الأئمة الكرام، وأن يكسبوا لأنفسهم بهذا جاهاً ومقاماً بين الناس. حتى الأئمَّةُ كانوا يصرِّحون - كما رُوِي عنهم ذلك([4]) - بأن كثيراً من الملتفِّين حولهم لم يكونوا يبتغون وجه الله ورضائه من ذلك، بل يبحثون عن الجاه، ومتاع الدنيا. ولما كان الإسلام قد وصل إلى شرق الدنيا وغربها وكان كثير من الناس من الحاقدين على الإسلام من أتباع الأديان الأخرى لا يستطيعون أن يحاربوا الإسلام بشكل علني لذا كانوا يستغلون أسماء وعناوين أولئك الأئمة الكرام، ويسعون بكل ما أوتوا من قوَّة في تخريب الإسلام وبث الفرقة بين أتباعه، وترويج المذاهب والمسالك المنحرفة بأنواعها([5]). كِلا الفريقين كان يعلم جيداً أن أقوالهم إذا نُسِبت إلى أولئك الأئمَّة الكرام - الذين لم يكن أحد ينكر علمهم وتقواهم - فإن الناس سيقبلون كلامهم وآراءهم بشكل أيسر، ولن يجرؤوا على التساؤل والبحث، أما لو نسبت آراؤهم وأقوالهم إلى غيرهم، فإن احتمال اعتراض الناس أو بحثهم وتساؤلهم سيكون أكثر. لهذا السبب ولكي يمنع الأئمَّة أمثال هؤلاء من خداع الناس قالوا: "....... وَاللهِ لَوِ ابْتُلُوا بِنَا وَأَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبَ أَنْ لَا يَقْبَلُوهُ، فَكَيْفَ وَهُمْ يَرَوْنِي خَائِفاً وَجِلًا؟!! أَسْتَعْدِي اللهَ عَلَيْهِمْ، وَأَتَبَرَّأُ إِلَى اللهِ مِنْهُمْ. أُشْهِدُكُمْ أَنِّي امْرُؤٌ وَلَدَنِي رَسُولُ اللهِ J وَمَا مَعِي بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ، إِنْ أَطَعْتُهُ رَحِمَنِي وَإِنْ عَصَيْتُهُ عَذَّبَنِي عَذَاباً شَدِيداً"([6]).
أو قالوا: "..... فَلَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا خِلَافَ الْقُرْآنِ فَإِنَّا إِنْ تَحَدَّثْنَا حَدَّثْنَا بِمُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ؛ إِنَّا عَنِ اللهِ وَعَنْ رَسُولِهِ نُحَدِّثُ"([7]).
وللأسف، فإن عدداً كبيراً من أصحاب الأئمَّة، كانوا يحرِّفون أقوالهم ويغيِّرونها، أو يروون عقائدهم وأهواءهم على لسان أولئك الكرام، فمثلاً نجد أن هذا «الأحول» المتجني ذاته (راوي الرواية الخامسة من الباب 59 من الكافي) كان رجلاً متعصباً نهاه الإمام الصادق u عن مجادلة الآخرين، ولكنه لم ينته عن ذلك، وكان يقول كلاماً لا يرضى به حضرة الإمام الصادق u، حتى اضطر الإمام أن يصفه بأنه متعصب، وأن يُعَلِّم سائرَ الناس كيف ينقضوا كلامه، من ذلك ما رُوِي من أن الإمام الصادق علَّم من يناقش «الأحول» أن يقول له: "أخبرني عن كلامك هذا من كلام إمامك؟ فإن قال نعم، كَذَبَ علينا، وإن قال لا، قال له: كيف تتكلم بكلام لم يتكلم به إمامك؟..."([8]).
وكان حضرة السجَّاد [علي بن الحسين زين العابدين (ع)] يشكو من ميل بعض أتباعه إلى المبالغة والغلو في حق أئمة الدين العظام ويعلن براءته من المغالين ويقول:
"إِنَّ الْيَهُودَ أَحَبُّوا عُزَيْراً حَتَّى قَالُوا فِيهِ مَا قَالُوا فَلَا عُزَيْرٌ مِنْهُمْ وَلَا هُمْ مِنْ عُزَيْرٍ وَإِنَّ النَّصَارَى أَحَبُّوا عِيسَى حَتَّى قَالُوا فِيهِ مَا قَالُوا فَلَا عِيسَى مِنْهُمْ وَلَا هُمْ مِنْ عِيسَى وَإِنَّا عَلَى سُنَّةٍ مِنْ ذَلِكَ إِنَّ قَوْماً مِنْ شِيعَتِنَا سَيُحِبُّونَّا حَتَّى يَقُولُوا فِينَا مَا قَالَتِ الْيَهُودُ فِي عُزَيْرٍ وَمَا قَالَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَلَا هُمْ مِنَّا وَلَا نَحْنُ مِنْهُم"([9]).
وقال حضرة باقر العلوم (ع): "لَوْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَنَا شِيعَةً لَكَانَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِمْ لَنَا شُكَّاكاً والرُّبُعُ الْآخَرُ أَحْمَقَ!"([10]).
ورغم أن علياً u امتلك قدرةً وقوةً أكثر من سائر الأئمَّة، وكان في يده السوط والسيف، كان يشكو كثيراً من أصحابه، فما بالك بالأئمة الآخرين الذين لم يكن بيدهم مثل تلك الإمكانات، لذلك كان أصحابهم يفعلون كل ما أرادوا فعله، ويضعون من الأحاديث ما أرادوا وضعه. ونذكر هنا بعض نماذج شكاية علي u من أصحابه، وإذا أراد القراء الكرام مزيداً من التفصيل حول هذا الموضوع، فليقرؤوا نهج البلاغة.
فمن ذلك أن علياً u قال مرةً يصف بعض أصحابه: "مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلا أَرْوَاحٍ وأَرْوَاحاً بِلا أَشْبَاحٍ ونُسَّاكاً بِلا صَلاحٍ وتُجَّاراً بِلا أَرْبَاحٍ وأَيْقَاظاً نُوَّماً وشُهُوداً غُيَّباً و........". (نهج البلاغة، الخطبة 108).
وقال في موضع آخر: "قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ [ونَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ وتَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ الآمَالِ وتَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الأمْوَالِ].....". (نهج البلاغة، الخطبة 133).
وقال أيضاً: "تَكْرُمُونَ بِاللهِ عَلَى عِبَادِهِ ولا تُكْرِمُونَ اللهَ فِي عِبَادِهِ....". (نهج البلاغة، الخطبة 117).
وقال حضرة الإمام الكاظم (ع) أيضاً: "لَوْ مَيَّزْتُ شِيعَتِي لَمْ أَجِدْهُمْ إِلَّا وَاصِفَةً، وَلَوِ امْتَحَنْتُهُمْ لَمَا وَجَدْتُهُمْ إِلَّا مُرْتَدِّينَ، وَلَوْ تَمَحَّصْتُهُمْ لَمَا خَلَصَ مِنَ الْأَلْفِ وَاحِدٌ، وَلَوْ غَرْبَلْتُهُمْ غَرْبَلَةً لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا مَا كَانَ لِي إِنَّهُمْ طَالَ مَا اتَّكَوْا عَلَى الْأَرَائِكِ فَقَالُوا نَحْنُ شِيعَةُ عَلِيٍّ([11]) إِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ صَدَّقَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ"([12]).
كما لاحظتم، لقد كان الأشخاصُ غيرُ الموثوقين كثيرين بين أتباع الأئمة، لذلك فلا ينبغي أن نغتر برواياتهم وأحاديثهم التي نقلوها عن الأئمة في الأصول والفروع، ولا نجعلها مستنداً لاعتقاداتنا ودليلاً لأحكام الشرع.
في نظرنا - كما قلنا في مقدمة هذا الكتاب - الطريق الصائب الوحيد هو الاعتماد على «الفقه المقارن». يجب علينا أن ندرس، في كل مسألة من المسائل الشرعية - بصدق ودون تعصب وأحكام مسبقة - أقوال المذاهب الإسلامية المختلفة وآراءهم، وندرس مستنداتهم وأدلتهم، ثم نختار القول الذي نجده أقرب إلى القرآن الكريم والسنة القطعية والذي تكون دلائله أقوى وقرائنه أكثر. وإلا فإن هذا التعصب المذهبي وألاعيب الفرق من أكبر علل ضعف المسلمين وتشتتهم وتسلُّط الكفار المتزايد عليهم يوماً بعد يوم. إن الأئمَّة تبرؤوا من تلك الفرق لكن المتعصبين والباحثين عن المنفعة والمصالح لم يكفُّوا عن التعصب المذهبي. ولذلك فيجب على المؤمنين أن يعتبروا أنفسهم مسلمين فقط، فقد خاطبهم القرآن بهذا العنوان فقط وقال: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾ [الحج/78].
([3]) من أمثال «المغيرة بن سعيد» و«أبي خطاب» و..... اللذَيْن جاء وصف أحوالهما في رجال الكشي صفحة 195 فما بعد، وصفحة 246 فما بعد.
([4]) جاء في «رجال الكِشِّي» (ص 197): "عن أبي عبد الله (ع) قال: "كان للحسن (ع) كذَّابٌ يكذب عليه، ولم يُسَمِّهِ، وكان للحسين (ع) كذَّابٌ يكذب عليه ولم يُسَمِّه، وكان المختار يكذب على علي بن الحسين (ع)، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي".
([5]) للاطلاع المفصَّل على هذا الموضوع راجعوا كتاب «المقالات والفرق» تأليف «سعد بن عبد الله الأشعري القمي» وكتاب «فرق الشيعة» تأليف «الحسن بن موسى النوبختي».
([11]) لقد كانت المذاهب المختلفة دكاكين كثيرة المنفعة لمؤسسيها وزعمائهما، وكان أكثرهم يطرح نفسه على أنه نائب لإمام من الأئمة، أو وكيل له أو قائم بأمور الأئمة عليهم السلام، ومن هذا الطريق كانوا يحصلون على ثروات ضخمة. من جملة ذلك وُكلاء الإمام الكاظم ونوابه الخاصين (راجعوا الصفحات 190، و196 - 197 من الكتاب الحالي) ولما كان الإمام الكاظم (ع) في السجن كانوا يجمعون كل ما يقدمه الشيعة باسم الإمام إليهم، فلما استشهد الإمام الكاظم (ع) في السجن أنكروا وفاته وقالوا: لم يمت بل غاب، وأسَّسوا ما عرفوا بمذهب «الواقفة»، وتوقَّفوا على الإمام السابع وادَّعوا أن لا إمام بعد حضرة الكاظم (ع)، وأنَّ كلَّ من ادَّعى الإمامةَ فهو كذَّابٌ وفاسقٌ، وبهذا أكلوا الأموال التي كانوا جمعوها باسم الإمام الكاظم (ع) كلَّها، وتصرَّفوا في الجواري اللواتي كُنَّ في أيديهم وهي ملك الإمام!