64. (كِتَابُ التَّوْحِيدِ) 24- بَابُ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الْمُحْدِثِ
اعلم أن هذا الباب أول أبواب «كتاب التوحيد» في الكافي، وهو يشتمل على ستة أحاديث لم يعتبر المجلسيّ ولا البهبودي أياً منها صحيحاً؟!!
ß الحديثان 1 و 2 - بناءً على قول المجلسي - سند الحديث الأول مجهول وسند الحديث الثاني ضعيف ومرفوع([1]). ومتن الحديثين أيضاً عجيب، لأنه رغم أن أتباع الكُلَيْنِيّ يعتبرون الكفار والزنادقة نجسين غير أطهار، إلا أن هذين الحديثين يقولان إن زنديقاً ينكر الله جاء إلى المسجد الحرام للطواف! ومن البعيد جداً أن يأتي منكرٌ لِـلَّهِ إلى المسجد الحرام، والأعجب من ذلك أن الإمام (ع) لم يعترض على حضور الزنديق في المسجد الحرام رغم معرفته بإلحاده!! رغم أنني أعلم أن محبي الكُلَيْنِيّ لفَّقوا تأويلاً وتوجيهاً لهذه المسألة!
ß الحديث 3 - سنده - طبقاً لقول المجلسي- ضعيفٌ. ورواته هم «مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَسَدِيُّ» عَنْ «مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيِّ» اللذان وضعا «الزيارة الجامعة» التي تخالف كثيرٌ من جملها القرآن والعقل([2]). ورواة الحديث الآخرون هم «الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ بُرْدٍ الدِّينَوَرِيُّ» عَنْ «مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبِي سَمِيْنَة» عَنْ «مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْخُرَاسَانِيِّ» مجهول الحال أو الوضاع الذي لا يتورَّع من شيء، والجاهل بالقرآن.
ß الحديث 4 - سنده - طبقاً لقول المجلسي- مجهولٌ. ومتنه أيضاً يتضمَّن عدَّة إشكالات سيتم بيانها. وينبغي أن نعلم أنه على الرغم من أن السيد المرتضى (رحمه الله) حاول أن يخترع تأويلاً وتوجيهاً لهذا الحديث، إلا أنه في الوقت ذاته سمَّى هذا الحديث في رسائله حديثاً «خبيثاً» وقال:
"وهذا الخبر المذكور بظاهره يقتضي تجويز المحال المعلوم بالضرورات فساده، وإن رواه الكُلَيْنِيُّ (رحمه اللهُ) في كتاب التوحيد، فكم روى هذا الرجل وغيره من أصحابنا (رحمهم اللهُ تعالى) في كتبهم ما له ظواهر مستحيلة أو باطلة، والأغلب الأرجح أن يكون هذا خبراً موضوعاً مدسوساً."([3]).
لنبدأ الآن ببيان إشكالات متن الحديث:
أولاً: يقول الحديث إِنَّ شخصاً ملحداً يُدعى "عَبْدُ اللهِ الدَّيَصَانِيُّ سَأَلَ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ رَبٌّ؟ فَقَالَ: بَلَى. قَالَ: أَقَادِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَادِرٌ قَاهِرٌ. قَالَ: يَقْدِرُ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ، لَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ وَلَا تَصْغُرُ الدُّنْيَا؟ قَالَ هِشَامٌ: النَّظِرَةَ ؟!!". أي أن هشام لم يستطع الإجابة وطلب المهلة!
يَتَـبَيَّنُ من هذا الحديث ومن الحديث رقم10 من الباب 42 أيضاً أن 94«هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ» الذي أُثني على علمه الوافر ومُدِح مدحاً بليغاً في كتب الشيعة لم يكن يعلم جواب هذه المسألة السهلة، وَمِنْ ثَمَّ فتلك المدائح التي قِيلت في حقه ينطبق عليها مَثَل:«رُبَّ مشهورٍ لا أصل له».
إنَّ الجواب الصحيح عن ذلك السؤال هو أن المظروف الكبير لا يسع داخل ظرفٍ ووعاءٍ أصغر منه، لأنك ذلك محال، والاستحالة ناشئة من المسألة ذاتها لا من عدم قدرة الله المتعال، لأن هذا السؤال معناه أن يكون الشيءُ الكبير صغيراً في عين حال كونه كبيراً! أو أن يكون الشيء الصغير غير صغير في الوقت ذاته الذي هو فيه صغير، وهذا كلام لا معنى له. تَصَوَّرْ أنتَ هذه المسألة أولاً كي يحقق الله عند ذلك تصوُّرَكَ. إن مثل هذه المسألة غير قابلة للتصور. نعم، اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ولكن المحال ليس شيئاً، وليس له ذات ولا شيئية، ولهذا السبب فإن قدرة الله المطلقة لا تتعلق بالمحال.
ولكننا نرى أن «هشام» سكت وذهب إلى الإمام الصادق u. والإمام أيضاً - طبقاً لهذا الحديث - أعطاه جواباً غير صحيح، ولما لم يكن هذا الموضوع من موارد «التَّقِيَّة»، فليس هناك توجيه مقبول لعدم إجابة الإمام عن ذلك السؤال إجابةً صريحةً صحيحةً. من هنا يتبيَّن أن هذا الحديث من وضع رواةٍ كذابين، وليس من كلام الإمام. إننا لا يمكن أن نصدق أن يجيب الإمام بمثل هذا الجواب. طبقاً للحديث قال الإمامُ لهشام: يَا هِشَامُ! فَانْظُرْ أَمَامَكَ وَفَوْقَكَ وَأَخْبِرْنِي بِمَا تَرَى؟ فَقَالَ: أَرَى سَمَاءً وَأَرْضاً وَدُوراً وَقُصُوراً وَبَرَارِيَ وَجِبِالًا وَأَنْهَاراً. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِu: إِنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ يُدْخِلَ الَّذِي تَرَاهُ الْعَدَسَةَ [أي عدسة عينك] أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ، لَا تَصْغَرُ الدُّنْيَا وَلَا تَكْبُرُ الْبَيْضَةُ!!!([4]).
ويقول الحديث إن هشاماً قبل هذه الإجابة بكل سرور وَقَبَّلَ يَدَي الإمام وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ورجع. هذا في حين أن ذلك الجواب لم يكن صحيحاً أصلاً لأن الله تعالى لم يُدخل السموات والأرض والجبال داخل عدسة العين، بل إن قابلية التأثر التي تتمتع بها عدسة العين عكست إشعاع النور المشع عليها فأوجدت في ذاتها تصويراً لتلك الأشياء على نحو يشابه عمل آلة التصوير، التي تصور مثلاً جبلاً كبيراً في صورة صغيرة، ولكن من الواضح تماماً أن صورة الأشياء الصغيرة ليست الأشياء ذاتها. لاحظوا أن الجواب المذكور لم يكن جواباً منطقياً ولا مقنعاً بل سفسطةً وهو أمر مستبعدٌ تماماً من الإمام.
ثانياً: لماذا قبَّل هشام يَدَي الإمام ورجليَه؟ إن تقبيل الأيدي والأرجل يناسب السلاطين المتكبِّرين، أما أولياء الله فلا يسمحون لأحد أن يقبل أيديهم وأرجلهم، وأن يمارس معهم مثل هذا النوع من التملُّق([5]).
ثالثاً: جاء في آخر الحديث أن الدَّيَصَانِيَّ أسْلَمَ وشهد الشهادتين وقال: "وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِمَامٌ وَحُجَّةٌ مِنَ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ!". هذا في حين أنه يوجد أشخاص كثيرون آخرون كان يمكنهم أن يجيبوا عن سؤاله؛ فهل كل من أجاب عن سؤال سائل يصبح حجةً من الله على عباده؟! هذا مع أننا نعلم أن الله قال إن الناس ليس لهم حجة بعد الأنبياء (سورة النساء/15)، وقال عليٌّ u : "تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) حُجَّتُهُ" (نهج البلاغة، الخطبة 91).
من الواضح أن الراوي الواضع لهذا الحديث أراد أن يخترع حُجَّةً لِـلَّهِ تعالى وأن يفتح لنفسه دكاناً باسم الدين ليسترزق منه.
ß الحديث 5 - مجهولٌ طبقاً لقول المجلسيّ.
ß الحديث 6- مجهولٌ طبقاً لقول المجلسيّ. ولابدَّ بالطبع من الرجوع إلى العقل في إثبات الصانع وصفاته، لا إلى أحاديث الآحاد التي يرويها رواة مجهولو الحال. ومن الجدير بالذكر أن متن هذا الحديث أيضاً لا يتضمَّن أي معلومات مهمة.
([1]) لا يخفى أن المجلسيَّ اعتبرَ الحديثَ 2 حديثين، ولذلك عدَّ الحديث 3 في الكافي حديثاً رابعاً في هذا الباب. إذْ اعتبر ذلك الجزء من الحديث الثاني الذي نجده في الصفحة 76 من المجلد الأول من الكافي مشاراً إليه بعلامة النجمة وموضوعاً بين قوسين حديثاً مستقلاً، وقال عنه: هذا الحديث لم يكن في أكثر نسخ الكافي ولكن الصدوق رواه في كتابه «التوحيد» عن الكُلَيْنِيِّ.
([2]) لقد درست في كتابي «خرافات وفور در زيارات قبور» [أي الخرافات الوافرة في زيارات القبور] هذه الزيارة ونقدتها. وراجعوا أيضاً كتاب «زيارت و زيارتنامه» [أي زيارة المزارات وأدعية الزيارات] ص350 فما بعد.
([4]) من الجدير بالذكر أنه رغم بذل المجلسيّ جهداً مضنياً لإيجاد توجيهات وتأويلات لهذا الحديث، إلا أنه روى في ختام كلامه عن الأئمة روايات تخالف هذا الحديث، وتعتبر أن مثل هذا الأمر محالاً. من ذلك أنه أورد روايةً عن أمير المؤمنين علي u قال فيها: "والذي سألتَنِي لا يكون" [لأنه محال].
([5]) يبدو أن واضع هذا الحديث كان يظن أن الأئمة - عليهم السلام - كانوا مثل مشايخ زماننا يسمحون للناس أن يقبلوا أيديهم ولا يمانعون من ذلك! حتى أنني رأيت أحياناً شيخاً من الشيوخ من أصحاب المناصب في الدولة يجلس ويصطف الناس أمامه ليقبلوا يديه وهو لا ينهاهم عن ذلك!! اللهم اشهد أني بريء مما يفعلون. أيها القارئ العزيز! قارن عملهم هذا مع عمل النبي الأكرم (ص) الذي منع بعض أصحابه عندما أراد أن يقبل يده وقال: "هذا تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك، إنما أنا رجل منكم". (خيانت در گزارش تاريخ، مصطفى الحسيني الطباطبائي، ج3، ص316، نقلاً عن كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، تأليف القاضي عياض الأندلسي، ج1، ص 133).