53. باب التقليد

جاء في هذا الباب ثلاثة أحاديث؛ ذكر البهبودي الحديث الأول والثالث منها في كتابه صحيح الكافي. أما المَجْلِسِيّ فاعتبر الحديث الأول مجهولاً أو حسناً، والحديث الثالث مجهولاً، إلا أنه اعتبره في مرتبة الصحيح. أما الحديث الثاني فقد اعتبره كلا محمد باقر المجلسي ومحمد باقر البهبودي غير صحيح.

ß الحديث 1و3 – حديثٌ توحيديٌّ تماماً ويتفق مع القرآن وممتاز جداً.

وسنذكر هنا ترجمتَه:

عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ الإمام الصادق u قَالَ: قُلْتُ لَهُ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [التوبة:  31]، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ مَا دَعَوْهُمْ إِلَى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ دَعَوْهُمْ مَا أَجَابُوهُمْ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاماً وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلَالًا فَعَبَدُوهُمْ [باتِّباعهم لهم] مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ!([1])

وعَنْ الإمام الصادق u قَالَ: "مَنْ أَطَاعَ رَجُلًا فِي مَعْصِيَةٍ فَقَدْ عَبَدَهُ"([2]).

وَعَنْ الإمام الصادق u فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: ﴿وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ﴾؟ قَالَ: "يُطِيعُ الشَّيْطَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَيُشْرِك‏"([3]).

و المَجْلِسِيّ ذاته يقول أيضاً:

"لعلَّك تظن أن ما تضمنه هذا الحديث من أن الطاعة لأهل المعاصي عبادة لهم جار على ضرب من التجوُّز لا الحقيقة، وليس كذلك بل هو حقيقة؛ فإن العبادة ليست إلا الخضوع والتذلُّل والطاعة والانقياد ولهذا جعل سبحانه اتباع الهوى والانقياد إليه عبادة للهوى فقال: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ﴾ [الجاثية:  23] وجعل طاعة الشيطان عبادة له فقال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ [يس:  60]."([4]).

يتبيَّن من قول الإمام الصادق u - كما تلاحظون - أن عبادة الناس لأحبارهم ورهبانهم كانت قبولهم الأعمى لكلامهم دون طلب الدليل منهم، فبهذا عبدوهم وهم لا يشعرون، أي أن قبولهم لأحكام الأحبار والرهبان دون طلب الدليل عليها ومستندها هو بحد ذاته عبادة لهم! (فتأمل جداً).

وحتى في «الكافي» نفسه رُوِيَ أن الإمام الباقر (ع) قال: "إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْ‏ءٍ فَاسْأَلُونِي مِنْ كِتَابِ اللهِ..."([5]). أي أن الأئمة كانوا ينتظرون أن يطلب منهم الناس الدليل الشرعي على ما يفتونهم به. ولكن للأسف فإن مُعَمَّمِينا (أي المشايخ) عوَّدوا الناس على الطاعة العمياء، كما نجد في زماننا أن الناس يقبلون كل ما يقوله العلماء - رغم أنهم يرون أن العلماءَ مختلفون فيما بينهم- دون أن يطلبوا منهم دليلاً، بل يعتمدون فقط على أن آية الله الفلاني قال ذلك. إن هذا النمط من التفكير أوقع في حياة الناس خسائر كبيرة لا تُعَوَّض، فمثلاً رغم أن القرآن يوصينا أن نجنح - أي نميل - إلى السِلْم إذا مال العدوُّ إليه ورضي به وأن لا نتحجَّج بأن العدو يريد خداعنا (الأنفال/61 و62)، لكن لما أصر أحد العلماء في الحرب العراقية الإيرانية على رفض السلام ومواصلة القتال دون ذكر دليله الشرعي وطبَّق رقابةً شديدةً على الآراء المخالفة له، وقمع كُلَّ رأي مخالف، ولم يسمح لعباد الله أن يطَّلعوا على آراء بقية العلماء، فأطاعه الناس دون مطالبته بالدليل، أدت هذه السُنَّة الخاطئة والعادة غير الإسلامية إلى إراقة دماء كثير من المسلمين وإصابة كثير منهم بعاهات دائمة كما أدت إلى خسائر مادية بالغة لَـحِقَت ببيت مال المسلمين، ولم يسأل أحد (في الواقع لم يَدَعُوهم أن يسألوا) بأي مجوز شرعي لم تقبلوا اقتراح السلم وواصلتم الحرب؟ وكانت نتيجة ذلك أن حل بالمسلمين ما حذَّر القرآن الكريم المسلمين منه من قبل، حين قال ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ [محمد/35]، إذْ اضطروا إلى قبول الصلح والسلام في وقت غير مناسب. فهذا مثال من الأمثلة البارزة على العبادة التي حرَّم الله أن تُؤدَّى إلى غيره، والمثال الآخر تحريم الأسماك التي لا فلس لها، إذْ لم يسأل أحد بأي مجوز شرعيٍّ حرَّمْتُم هذه الأسماك مع أن القرآن الكريم يقول: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ﴾ [المائدة /96]. ولم يقل أحد: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ اللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس/59]، كما لم يعترض أحد بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ﴾   [النحل/116]، بل أطاع الناس ذلك الحكم دون طلب الدليل الشرعي المتقن عليه([6]). في الحقيقة، إن من مفاخر الإسلام العزيز العظيمة اعتباره الطاعة العمياء دون سؤال ودون دليل عبادةً وتحريمه أداءَ هذه العبادة لغير الله، فلا تجوز مثل هذه الطاعة المطلقة إلا للأوامر الإلهية التي أُبلغت للناس بواسطة نبيِّ الله. وَالْحَمْدُ لِـلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وقد جاءت في هذا الموضوع أحاديث في كتاب وسائل الشيعة أيضاً نذكرها فيما يلي:

1- قال الإمام الصادق u عن الآية 31 من سورة التوبة: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾؟ قَالَ: وَاللهِ مَا صَلَّوْا لَهُمْ وَلَا صَامُوا وَلَكِنْ أَطَاعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ"([7]).

2- وَقَالَ أيضاً: "لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الأحبار والرهبان وَلَكِنْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ أَشْيَاءَ اسْتَحَلُّوهَا وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَرَّمُوهَا"([8]).



([1]) أورد الكُلَيْنِيّ هذا الحديث مرة ثانية في المجلد الثاني من أصول الكافي، ص 398، الحديث 7 من باب الشرك. وراجعوا أيضًا صحيح الكافي للأستاذ البهبودي، حديث 23 و 409.

([2]) أصول الكافي، ج 2، ص 398.

([3])   أصول الكافي، ج 2، ص 397.  حديث 3.

([4])   المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 70، ص 13.

([5]) أصول الكافي، ج 1، ص 60، حديث 5.

([6])   بالطبع لما رأى الفقهاء بعد الثورة أن هذا الحكم الخرافي سيسبب أضراراً ماليةً كبيرةً استثنوا الأسماك التي تحتوي على زيت الخاويار بحجة أنهم رأوا فلساً قرب ذنبها!! فأخرجوا أسماك الخاويار من حرمة الأسماك التي لا فلس لها.  

([7]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، طبعة قم بتحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث [29 مجلداً]، ج 27، ص 133 . (المُتَرْجِمُ)

([8]) الحر العاملي، وسائل الشيعة، الطبعة القديمة، ج18، ص 96 – 97، الحديثان 25 و 29.