45. بَابُ لُزُومِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعَالِمِ وَتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ
في هذا الباب أربعة أحاديث اعتبر المجلسيُّ الحديث الأول والثاني اللذَيْن لهما سَنَدٌ واحدٌ، والحديث الرابع ضعيفةً. واعتبر الحديث الثالث حسناً، وقبله على أنه حديث صحيح. و الأستاذ البهبودي أورد الحديث الرابع فقط في كتابه «صحيح الكافي».
ß الحديث 3 - كما قلنا اعتبر المجلسيّ هذه الرواية حسنةً، ولكن حكمه غير صحيح. لأن أبَا «عليِّ بنِ إبراهيم» مجهول الحال لم يوثَّق([1])، وَمِنْ ثَمَّ فالحديث يُعتبر مجهولاً، وابنه أيضاً يُعتَبَر في نظرنا غير موثوق ولا يُعتمد عليه. ومتن الحديث أيضاً لا يخلو من علَّة إذ جاء فيه: "إِذَا بَلَغَتِ النَّفْسُ هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ تَوْبَةٌ، ثُمَّ قَرَأَ ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ...﴾".
وأقول: وهل لغير العالم توبةٌ إذا بلغت نفسه الحلقوم؟! في نظرنا إن الراوي لما رأى كلمة «بِجَهالَةٍ» في الآية ظنَّ أنه إذا كان للجاهل توبةٌ فلا بد أن لا تكون للعالم توبة! ولكن كما قال العلامة محمد رضا المظفَّر: "والذي يبدو لي من تتبع استعمال كلمة الجهل ومشتقاتها في أصول اللغة العربية أن إعطاء لفظ «الجهل» معنى يقابل «العلم» بهذا التحديد الضيق لمعناه جاء مصطلحاً جديداً عند المسلمين في عهدهم لنقل الفلسفة اليونانية إلى العربية الذي استدعى تحديد معاني كثير من الألفاظ وكسبها إطاراً يناسب الأفكار الفلسفية، وإلا فالجهل في أصل اللغة كان يعطي معنى يقابل الحكمة والتعقُّل والروية، فهو يؤدي تقريباً معنى السفه أو الفعل السفهي عندما يكون عن غضب مثلاً وحماقة وعدم بصيرة وعلم. ... وعليه، فيكون معنى(الجهالة) أن تفعل فعلاً بغير حكمة وتعقّل ورويّة الذي لازمه عادة عدم إصابة الواقع والحقّ"([2]).
إذن ليس المقصود من كلمة ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ في آية ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ [النساء/17] أو آية: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام/54] (أو الآية 119 من سورة النحل، أو الآية 89 سورة يوسف، و.........) «الجهل المطلق» والآية لا تريد أن تميِّز هنا بين العالم والجاهل، بل الآية تقول إن الذين يرتكبون الإثم دون أن يكونوا جاهلين بسوء ما يفعلون بل يعرفون ذلك ورغم ذلك يرتكبون الإثم، إنما يقومون بعمل غير محسوب ومخالفٍ للتعقّل ومناقضٍ للتفكير بعواقب الأمور [وهذا هو معنى بجهالة]، فهؤلاء إن لم يؤخروا توبتهم إلى حين احتضارهم واقترابهم من الموت، بل تابوا قبل ذلك فإن توبتهم مقبولة. وهناك في الآيات الكريمة المذكورة أعلاه قرينة تدلُّ على إفادة هذا المعنى وتُبَيِّن أن ليس المقصود من الجهل عدم العلم وعدم المعرفة، وهي جملة: ﴿يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ [النساء/17]، لأنه لو كان المقصود من الجهالة الجهل وعدم العلم وعدم المعرفة بفساد العمل لما كان هناك حاجة للتوبة إذْ المذنبُ -حسب هذا الفرض- لم يكن عالماً بأن ما يرتكبه ممنوعٌ ومحرَّمٌ حتى يتوب منه؛ لهذا - كما ذكرنا- معنى الآية أن التوبة المقبولة هي توبة الذين إذا ارتكبوا ذنباً بسبب استيلاء حالة من ضعف الإيمان أو الغفلة عليهم؛ لم يؤجِّلوا إصلاح عملهم والتوبة منه إلى المستقبل البعيد أو إلى لحظة الاحتضار وساعة الموت، بل تابوا سريعاً وعادوا إلى الله وسلكوا سبيل الخير والصلاح.
استناداً إلى ما ذكرنا أعلاه فإننا نرى أن صدور مثل تلك الرواية عن الإمام بعيد، لأن حضرة الإمام الصادق u يعلم قطعاً المعنى المقصود من الآية وَمِنْ ثَمَّ فلا يقول كلاماً لا يستقيم ولا ينسجم معها.
([1]) لا يخفى أن روايات هذا الأب والابن، كما مرت معنا نماذج لها في الصفحات السابقة من هذا الكتاب، روايات فاسدة وغير قابلة للتأويل، وكل من تأمل رواياتهما المذكورة في أصول الكافي ثبتت له هذه الحقيقة بكل وضوح، لكن بعض الخرافيين المتعصِّبين المتكسِّبين بالمذهبية أساؤوا الاستفادة من عدم توثيق «إبراهيم بن هاشم» وقالوا إنه كان أرفع شأناً من أن يوثِّقه أحدٌ أو ينصّ على عدالته؟!! نعوذ بالله من التعصُّب.