29. نماذج لروايات «الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ» التي تكشف عن ضعفه وعدم وثاقته
1- روى الكُلَيْنِيُّ في الرواية الرابعة من الباب 105 : "عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (ع) إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) قَدْ عَرَفَ قَاتِلَهُ وَاللَّيْلَةَ الَّتِي يُقْتَلُ فِيهَا وَالْمَوْضِعَ الَّذِي يُقْتَلُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ لَمَّا سَمِعَ صِيَاحَ الْإِوَزِّ فِي الدَّارِ صَوَائِحُ تَتْبَعُهَا نَوَائِحُ، وَقَوْلُ أُمِّ كُلْثُومٍ: لَوْ صَلَّيْتَ اللَّيْلَةَ دَاخِلَ الدَّارِ وَأَمَرْتَ غَيْرَكَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأَبَى عَلَيْهَا، وَكَثُرَ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِلَا سِلَاحٍ وَقَدْ عَرَفَ (ع) أَنَّ ابْنَ مُلْجَمٍ -لَعَنَهُ اللهُ- قَاتِلُهُ بِالسَّيْفِ، كَانَ هَذَا مِمَّا لَمْ يَجُزْ تَعَرُّضُهُ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ كَانَ وَلَكِنَّهُ خُيِّرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِتَمْضِيَ مَقَادِيرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"([1]).
وأقول:
أولاً: هذا الكلام المنسوب إلى الإمام الرضا (ع) لا يتَّفق مع القرآن، كما سنرى، ونحن لا نقبل أبداً أن يُنسَب إلى ذلك الإمام العزيز قولاً يخالف كتاب الله. وينبغي أن نعلم أنّ «مروّج الخرافات وحارس البدع» محمد باقر المجلسي رغم اعترافه بضعف الحديث استناداً إلى قواعد علم الحديث إلا أنه - كما هي عادته - قام بتأويل الحديث وتوجيهه !!([2])
يقول: لقد جاء في بعض النسخ لفظ «حُيّر» بدلاً من «خُيِّر» !
وأقول: من الواضح تماماً أن كلمة «حُيِّر» لا تتناسب مع متن الحديث لأن الإمام لم ينسَ، لأنه لَمَّا سَمِعَ صِيَاحَ الْإِوَزِّ فِي الدَّارِ قال: صَوَائِحُ تَتْبَعُهَا نَوَائِحُ، وحتى - طبقاً لقول الشيخ المفيد وابن شهر آشوب، أنشد شعراً حول موته وخرج من المنزل!
ثم اخترع المجلسيُّ تأويلاً آخر وقال: رغم أن الأنبياء والأئمة كانوا يعلمون الغيب وكانوا يعرفون حوادث المستقبل جميعها، لكنهم لم يكونوا مأمورين ولا مكلَّفين بالاعتناء بعلمهم هذا والاستفادة منه!!
أقول: لا ريب أنّ كلام المجلسي هذا دليلٌ عليلٌ وادعاءٌ بلا دليلٍ، ولذلك فإننا نسأل: استناداً إلى أي آية أو حديث معتبر علمتم أن الأنبياء والأئمة معذورون من العمل بعلمهم بالغيب واعتنائهم به ؟! لأن هذا الادعاء لا يتّفق مع القرآن الكريم الذي يقول: ﴿قُلْ ... وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ...﴾ [الأعراف/188].
وأصلاً لم يثبت علم الغيب لغير الله بل ثبت أن عكس ذلك هو الذي يتفق مع تعاليم الشريعة [أي أن لا أحد يعلم الغيب إلا الله]، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل/65]، ويقول عن الإنسان ومعرفته بكسبه وموته: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان/34].
وقد قال الإمام عليٌّ u بعد قراءته الآية الأخيرة: "فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلا اللهُ [أي حتى الأنبياء والأوصياء لا يعلمونه]". (نهج البلاغة، الخطبة 128). وقد سبق أن تكلمنا عن موضوع العلم بالغيب فلا نكرّره هنا([3]).
والطريف أن حديث الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ هذا مخالف لكلام أمير المؤمنين عليّ u نفسه، كما مر ذكره، وكما رُوِيَ عَنْه u قوله [عندما تلقَّى الضربة النكراء من ابن ملجم] ما يفيد عدم علمه بموته، واعتباره ذلك العِلْم أمراً مكنوناً ومخزوناً، وقوله قبل موته، ونص عبارته:
"أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّ امْرِئٍ لاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ. الأجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ والْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ. كَمْ أَطْرَدْتُ الأيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الأمْرِ [أي عن كيفية شهادتي وزمانها ومكانها] فَأَبَى اللهُ إِلا إِخْفَاءَهُ. هَيْهَاتَ عِلْمٌ مَخْزُونٌ [عند الله]...". (نهج البلاغة، الخطبة 149).
وحتى بعد تلقّيه تلك الضربة لم يكن يعلم على وجه القطع واليقين هل سيبقى حياً من ضربته تلك أم سيفارق الحياة؟ لأنه عندما ضُرِبَ تلك الضربة، قال بعد الكلمات المذكورة أعلاه: "إِنْ تَثْبُتِ الْوَطْأَةُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ فَذَاكَ".
وقال أيضاً: "إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي". (نهج البلاغة، قسم الرسائل، الرقم 23).
ثانياً: إضافةً إلى ما سبق فإن حفظ النفس والدفاع عنها واجبان، وعدم التعاون على الإثم والعدوان واجب أيضاً، والإمام كان يعمل قطعاً بهذه الواجبات، ولو كان مطَّلعاً على مقتله، لمنع «ابن ملجم» -على أقل تقدير- من ارتكاب ذلك العمل المحرّم من باب عدم التعاون على الإثم والعدوان، وَلَمَا حَرَم أمة الإسلام من وجوده المبارك. وكما ذكّر أخونا العلامة المحقق عالي القدر السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي بقوله: "لقد أرادوا أن يَسُمُّوا أبا حنيفة الفقيه المشهور وإمام المذهب الحنفي في عصر أبي جعفر المنصور العباسي، وأعطوه كأساً قد دُسَّ السم فيه فأبى أبو حنيفة أن يشرب منه وقال: «لا أُعين على قتل نفسي»"([4]). ولا شك أن علياً u أولى من الآخرين وأجدر منهم بعدم التعاون على قتل نفسه. من هنا لا يمكننا أن نقبل أن يعلم الإمام بأنه سيُقتَل ورغم ذلك لا يقوم بمنع ارتكاب تلك الجريمة ([5]).
ثالثاً: لنفرض أن الإمام كان يعلم أنه سيُقتَل، فلماذا إذن صاحت الإوزّ؟ هل كانت الإوزّ أيضاً على علم بأن الإمام سيُقتَل؟! هل يريد «ابن جهم» أن يُلوِّح بأن الإوزّ في منزل الإمام كان لها نصيب من العلم بالغيب أيضاً؟!
على كل حال نحن, انطلاقاً من إيماننا بالله وبكلامه ولأننا نحب حضرة علي وحضرة الرضا - عليهما السلام - حباً صادقاً ومتأكدون تماماً أنهما لا يقولان شيئاً يخالف القرآن، لا يمكننا أن نعتمد على مثل هذا الراوي حتى ولو جاءت روايته في كتاب الكافي.
بعد أن عرفنا حال هذا الراوي ننتقل الآن إلى دراسة متن الرواية رقم 32 في هذا الباب. يقول «ابن جهم» أنه عندما ذُكِرَ الْعَقْلُ عِنْدَ الإمام الرضا (ع) قَالَ u: "لَا يُعْبَأُ بِأَهْلِ الدِّينِ مِمَّنْ لَا عَقْلَ لَهُ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ مِمَّنْ يَصِفُ هَذَا الْأَمْرَ قَوْماً لَا بَأْسَ بِهِمْ عِنْدَنَا وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْعُقُولُ فَقَالَ لَيْسَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ خَاطَبَ اللهُ...".
هذا مع أنه من البديهيات تقريباً أن المراد من العقل في لسان الشرع هو العقل السليم والعرفي الذي يتمتّع به أكثر الناس بحمد الله، لا عقل أشخاص مثل أفلاطون وابن سينا وميرداماد وصدر الدين الشيرازي وكانط وهيجل و..... !! ولو صحّت هذه الرواية لكان أكثر الناس غير مكلَّفين ولكانت شريعة الإسلام خاصة بعدة أفراد محدودين.
ß الحديث 33 - مرسلٌ؛ لذا لا يمكن الاطمئنان إلى صدوره عن الإمام الصادق u. أما متنه فلا يتعارض مع الإسلام.
ß الحديث 34 - من مرويات «سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ» الذي عرفنا حاله. وراويه الآخر «عُبَيْدُ اللهِ الدِّهْقَانُ» عدَّهُ النجاشي والعلامة الحلّي و الممقاني و سائر علماء الرجال ضعيفاً. يتكون هذا الحديث من ثلاث فقرات، وقد تم شرح الفقرة الأولى منه فقط في كتاب «مرآة العقول»، فمن المحتمل أن تكون نسخة المجلسي من الكافي غير محتوية على الفقرتين (ألف) و (ب) من هذا الحديث، لذا لم يقم بشرحهما. وكما جاء في حاشية «مرآة العقول» (ج 1، ص 92) فإن أكثر نسخ «الكافي» تخلو من هاتين الفقرتين.
بهذا ينتهي كتاب «العقل والجهل» ونبدأ الآن بدراسة و نقد الباب التالي من أبواب أصول الكافي وهو كتاب فضل العلم.