7. الحُجَّةُ وَالبَيِّنَةُ في الإسلام

من يريد أن يؤمن بدينٍ لينال به السعادة والفلاح في الدُّنْيَا والآخرة وليعمل بتعاليمه ويبذل نفسه وماله في سبيله، يجدر به أن يُدقِّق كلَّ الدقَّة في اختياره لهذا الدين. فليس الدينُ أمراً سطحيَّاً قليل الأهمية، ومسؤولية القيامة والوقوف أمام المحكمة الإلهية ليس أمراً بسيطاً، فلا بُدَّ أن يكون لدينا حُجَّةٌ، أو بتعبير القرآن: «سُلطانٌ من الله» على ما ندين اللهَ تعالى به. والحُجَّة والسلطان يعنيان الدليل القوي المُحكَم الذي عرَّفه اللهُ بوصفه حُجَّةً ودليلاً في الدين، عندئذٍ إن اعتقدنا بأمر استناداً إلى مثل هذه الحُجَج والدلائل كنا معذورين أمام رَبِّ العالَمين.

إن الحضور في المحكمة الإلهية والإجابة عن سؤال: لماذا فعلت ذلك ولماذا اعتقدت بمثل تلك العقيدة؟ يقتضي منا اعتناق عقيدةٍ مقبولةٍ وامتلاك حُجَّة وسُلطان قَطْعيٍّ ومُستندٍ ومقبولٍ من الله.

طبقاً لآيات القرآن وسُنة رسول الله o القطعية، هناك حُجَّتان في الإسلام:

الأولى: كتاب الله وهو في دين الإسلام: القرآن الكريم ([1]).

الثانية: العقل الذي هو شرط التكليف، فمن لا عقل له ليس مُكلَّفاً. وقد عبَّر بعض العلماء عن القرآن بالعقل الخارجيّ وعن العقل بالعقل الباطنيّ. وقد وردت في "الكافي" ذاته في «كتاب العقل والجهل» رواياتٌ عديدة حول أهمية العقل([2]).

كتب أخونا المفضال جناب الأستاذ «السيِّد مصطفى الحُسَيْني الطباطبائي» -أيَّده الله تعالى- حول أهمية «العقل» يقول:

"وردت كلمة "عَقَلَ" بمشتقاتها المُختلفة (عقلوه، تعقلون، نعقل، يعقلها، يعقلون) تسعةً وأربعين مرَّةً في القرآن، كما وردت الإشارة إلى العقل 16 مرَّة من خلال تعبيرات مثل: (أولي الألباب، أولو الألباب) ومرَّةً بعبارة (أولو بقيَّة) ومرَّةً بعبارة (أولي النُّهى)، وكل ذلك يدل على أهمية العقل واعتباره وحُجِّيَّته، وإذا أضفنا إلى ذلك المعاني الإشارية في القرآن حول العقل والتفكير لكان العدد المذكور أكثر من ذلك"([3]).

يقول اللهُ تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء/165]. تفيد هذه الآية أنه مع مجيء الأَنْبياء تمّت تلبية حاجة البشر إلى الدليل والبيَّنة الخارجية، وَمِنْ ثَمَّ تمَّت عليهم الحُجَّة ولم يبقَ لأحد عذرٌ في عدم اتِّباع الهداية الإلهية. وقال أمير المؤمنين عليٌّ u أيضاً تأكيداً لهذا المعنى: "تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله) حُجَّتُهُ"([4]).

وحتى في كتاب "الكافي" هذا روايةٌ عن قول صادق آل محمد o قال فيها: "حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ النَّبِيُّ o وَالْحُجَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَبَيْنَ اللهِ الْعَقْلُ"([5]).

بِنَاءً عَلى نقل الكُلينيّ فإن الإمام الصادق –عليه آلاف التحية والثناء- اعتبر أيضاً هذين الأمرين حُجَّةً. من هنا لا دليل مُتقن لدينا على أن شخصاً أو أشخاصاً غير الأَنْبياء يمكن أن يكونوا حُجَجَاً من الله على عباده! (فتأمَّل).

فهل يُمكن لأحد أن يقول: إن كتاب "الكافي" ونظائره حُجَّة علينا؟ وهل يُمكن أن نعتبر "الكافي" مُستنداً وأساساً للفتوى؟ فالعجب من علمائنا الذي يقولون إنهم مؤمنون بالقرآن الكريم ونهج البلاغة وفي الوقت ذاته يعتبرون كثيراً من روايات "الكافي" المَعِيبَة المخدوشة حُجَّةً عليهم ويُدافعون عنها!!

والأعجب من ذلك، أنهم قبلوا ذلك التوقيع الذي وُضع ونُسب إلى الإمام القائم([6]) وبناءً على ادِّعائهم جاء في التوقيع المذكور عن الإمام الثاني عشر قوله: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حُجَّتي عليكم وأنا حُجَّة الله عليهم!"([7]).

وهنا يجدر طرح السؤال التالي:

أولاً: يا من تمسكتم بهذه الرواية، ألستم مُطَّلعين على أحوال معظم رُواة الحديث؟ ألستم تعلمون جيداً أن أكثرهم كانوا مُنحرفين (مثلاً فطحيو المذهب أو من الواقفة و....و...) أو كانوا من الغلاة أو الكذَّابين أو الخائنين أو المجهولين؟ أو حتى إن كانوا موثوقين فقد نُسِبَتْ إليهم أخبارٌ مُخالفةٌ للقرآن؟ فكيف يكون رُواة الحديث حُجَّةً على الناس؟!

ثانياً: لم يكن رُواة الحديث مُجتهدين بل كانوا من الكَسبة والتجار والمُزارعين و..... ولم يكن لمُعظمهم أيُّ تبحُّرٍ أو علمٍ كافٍ بالقرآن الكريم. سبحان الله! ألا تعلمون الفرق بين الراوي والمُجتهد؟!

ثالثاً: كم من الأحاديث –أعمّ من الصحيحة وغير الصحيحة والصادقة والكاذبة- مروية عن الإمام الثاني عشر حتى يرجع إليها المُجتهدون؟! وإن كان المقصود أحاديث الأئمة السابقين، فلا بُدَّ أن يكونوا حُجَّةً في حين أن الحديث المذكور اعتبر الإمام الثاني عشر حُجَّة على المُجتهدين؟!

رابعاً: إن المُجتهدين الذين اعتبرت الرواية أن الإمام حُجَّة عليهم ليس في قدرتهم الوصول إلى الإمام ولا اتَّصال لهم به، فأي حُجَّةٍ هذه التي لا يُمكن الوصول إليها والاستفادة منها؟!

خامساً: لماذا لم تتمّ الإشارة في القرآن الكريم إلى مثل هذه الحُجَّة التي هي حُجَّةٌ على أفراد خاصين من الأمة فقط (أي العلماء والمُجتهدين) كي يطَّلع العلماء جميعهم –على الأقل- على وجود هذه الحُجَّة ويعلموا بها؟!

العجيب أنَّ مُجتهدي مذهبنا يذكرون هذه الرواية غير الصحيحة بل الموضوعة بوصفها أحد الدلائل على حُجّية قولهم أنفسهم كي يُقلِّدهم الناس ويتَّبعوهم اتِّباعاً أعمى!([8])



([1])   اتِّباع السنة القاطعة، أو ما سمَّاه حضرة أمير المؤمنين عليّ u «السنة الجامعة غير المُفرِّقة» أمرٌ أمرنا به القرآن أيضاً، فاتِّباع القرآن يستلزم اتِّباع هذه السنة كذلك.

([2])   الأصول من الكافي، 1، ص10 فما بعد.

([3]) مصطفى الحسيني الطباطبائي، خيانت در گزارش تاريخ، (خيانة في رواية التاريخ) انتشارات چاپخش، چاپ اول، ج1، ص159.

([4]) نهج البلاغة، الخطبة 91.

([5]) الأصول من الكافي، ج 1، ص25، حديث 22.

([6])   طبقاً للقواعد العلمية فإن الحديث المذكور يفتقد شروط الحديث الصحيح لأن راويه: «إسحاق بن يعقوب» مجهول الحال ومثل هذا الحديث لا يُعتبر  حُجَّةً بالطبع.

([7])   الشيخ عباس القمي، منتهى الآمال، طبع كتابفروشي إسلامية، ص509.  ومن المُفارقة أن الشيخ الكُليني الذي يدَّعي أنه كان مُعاشراً لنواب الإمام وأن كتابه شوهد من قبل الإمام القائم، لم ينقل مثل هذا الخبر!

([8])   لمزيد من الاطِّلاع ارجعوا إلى مُقدّمة تفسير «تابشي از قرآن»  (أي شعاع من القرآن) [تأليف المؤلف ذاته] حيث درستُ وحقَّقتُ بشكل مُفصَّل في أدلة التقليد في الفصل 23 من فصول المُقدِّمة. ويُمكنكم أيضاً -إذا أردتم المزيد من التفصيل حول هذه المسألة- أن ترجعوا إلى كتاب «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية» تأليف «آية الله حسينعلي المنتظري» وقد كانوا حتى عهد قريب يُثنون عليه جداً [قبل أن يتبدل موقفهم منه]. الطبعة الأولى، ج1، ص425 فما بعد، وارجعوا أيضاً إلى كتاب «دين وشؤون» تأليف الشيخ أسد الله مامقاني، ص 42 فما بعد.